أدبٌ ضدّ التعصب

shutterstock
shutterstock

أدبٌ ضدّ التعصب

من طبيعة الأدب، أو الفن بعامة، أنه ضد التعصب في مختلف أنواعه وأشكاله. فلا يمكن للأدب، أو الفن بعامة، أن يكون إبداعيا حقا إذا لم يتحلّ بأعلى درجات الانفتاح والرحابة، والإقبال على مصادر الثقافة من كل جهة، والتطلع إلى الآفاق الجديدة في كل صوب.

لا أعني بهذا أن الأدب عليه أن يكون حياديا إزاء القضايا الكبرى والمصيرية والمحقة. فالأدب الحق يجد نفسه تلقائيا إلى جانب العدل ومكافحة الظلم، يجد نفسه تلقائيا إلى جانب الارتقاء بالمعنى الإنساني للوجود، معاديا بذلك كل أشكال التوحش والهمجية والإبادة. وهذا ما ينطبق اليوم على موقف الأدب من حرب الإبادة في غزة، بل هو ينطبق على الموقف من القضية الفلسطينية منذ اندلاعها في وجه العالم كله.

أما التعصب الذي نقصده، والذي ينافي طبيعة الأدب، فهو المرادف للتقوقع أو الانغلاق، ويظهر بمظاهر التشدد، دينيا كان أو مذهبيا أو سياسيا أو غير ذلك. وقد عرفت البلدان العربية، في العقود الأخيرة الماضية، كثيرا من مظاهر التشدد الذي قاد إلى العنف بين جماعات في داخل هذه البلدان. وهذا من شأنه أن يلقي على الأدب عندنا مهمة إضافية، هي مهمة التعبير عن مواقف مناقضة للغرائز، غرائز التعصب والتشدد والعنف في مجتمعاتنا التي بات الخطر يتهددها من كل جانب. بمثل هذه المواقف يبقى الأدب عندنا أمينا لطبيعته، عاملا على تجديد مضامينه وأشكاله وأساليبه.

التعصب الذي نقصده، والذي ينافي طبيعة الأدب، هو المرادف للتقوقع أو الانغلاق، ويظهر بمظاهر التشدد، دينيا كان أو مذهبيا أو سياسيا

دروس من الماضي

الصوَر المشرقة في تراثنا الأدبي ابتكرها شعراء وناثرون تميزوا بعقول منفتحة لم ترضخ لنزعات التحديد أو التضييق أو التوجيه في اتجاه معين. ففي المرحلة العباسية من التاريخ العربي، تعرّض الأدب لمحاولات كثيرة دعتْه إلى التزام قواعد ومعايير ثابتة، من شأنها أن تجعله خادما لقيَم فكرية واجتماعية لا تتغير عبر الزمن. محاولات التدجين هذه، التي انطوت في جوهرها على أحادية أو تعصب، واجهها الأدباء والمفكرون المبدعون بعقلانية وانفتاح أدّيا إلى ظهور الصوَر المشرقة التي ألمحْنا إليها. هل نذكر مثلا عقلانية المعرّي؟ وغيره من الشعراء أو الفلاسفة (كالفارابي وابن سينا) أو اللغويين والبلاغيين (كابن جنّي والخليل بن أحمد وعبد القاهر الجرجاني). وهل نشير أيضا إلى بعض الحركات الصوفية التي جعلت العلاقة بين الله والإنسان مفتوحة بلا حدود، تعبيرا عن أقصى درجات الرحابة والتسامح؟ يقول ابن عربي:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة     

فمرعى لغزلان وديْر لرهبانِ

وبيتٌ لأوثان وكعبة طائف     

وألواحُ توراة ومصحف قرآنِ

أَدينُ بدينِ الحب أنّى توجهت     

ركائبُه فالحب ديني وإيماني

وفي كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيّان التوحيدي، أمثلة عدة لنماذج من الرحابة والعقلانية والمنطق. من ذلك المحاورةُ الجميلة بين عالم النحو أبي سعيد السيرافي وعالم المنطق أبي يونس القنّائي (كما يرويها أبو حيّان)، حيث نلمس مستوى عاليا من التفهّم والدقة في تبادل الآراء والحجج. وفي الكتاب نفسه كلام للتوحيدي عن النقد الأدبي، وعن العلاقة بين الشعر والنثر والفرق بينهما، ينمّ عن نباهة وتفتح ذهني يبتعدان أشدّ البعد عن أي تعصب أو تزمّت. فبعد عرضه لبعض الأقوال التي تفضّل الشعر على النثر، ولبعض الأقوال التي تفضّل النثر على الشعر، يُدلي التوحيدي برأيه، فيقول: "أحسنُ الكلام ما قامت صورتُه بين نظْم كأنه نثر ونثرٍ كأنه نظْم".

ألا نجد، في ما تقدّم من أمثلة، ابتعادا عن التعصب يفتح الفضاء واسعا أمام الإبداع في الفكر والأدب؟

دروس الحاضر

كيف لأدبنا اليوم أن يواجه غرائز التعصب والعنف؟

في رأيي، يقوم الأدب بهذه المهمّة إذا استطاع أن يقوم بثورته الذاتية، أي إذا استطاع أن يثور على نفسه، أو بالأحرى إذا استطاع أن يتجدّد في رؤاه وفي تقنياته. فمن طبيعة الأدب أيضا أن يتجدد في استمرار. وما يحيط به من ظروف ومستجدات يطرح عليه المزيد من التحديات.

أدبنا اليوم يقف إزاء مرحلة صعبة ومعقّدة، وعليه أن يعيَ خطورة المهمة التي ينبغي له أن يضطلع بها. وإذا كان من الصعب جدا أن يؤثّر في الواقع من حوله، فعليه - في الحدّ الأدنى - أن يتجنب التأثيرات السلبية التي قد تتسرب إليه من ذلك الواقع. ولما كان هذا الأخير ممزقا ومنتهَبا بفعْل الانقسامات والنزاعات التي يغذّيها التعصبُ وتغذّيه، فإن الأدب عليه ألا يتحول هو الآخَر إلى ساحة صراعات يتخفى وراءها التعصب. وهنا تبرز أهمية المواقف التي ينبغي للعاملين في حقل الأدب أن يتسلحوا بها. إنها المواقف التي تنْبذ التعصب، وتعمل على إشاعة مناخات من المرونة والتفهّم والتعددية والتنوّع والإقرار بمبادئ الحرية في التفكير والتعبير.

 على العاملين اليوم في حقل الأدب أن يتجنبوا التحول إلى فريسة للنزاعات المذهبية التي تعصف بالواقع الراهن. عليهم أن يتجنبوا التقوقع، وألا يرتضوا لأنفسهم الإقامة أو التحرك في مساحات ضيّقة. عليهم ألا يقعوا أسرى المواقف الغرائزية أو الانفعالية. وهنا، يحسُن بنا الإقرار بأن الساحة الأدبية تشكو من التشرذم والضياع والفوضى. تشكو من صراعات في داخلها بين المواقف المتشنجة أو المتعصبة. وتشهد على ذلك نوعية السجالات الضحْلة التي لا تزال سائدة في هذه الساحة، على الرغم من كونها باتت مستهلَكة أو عقيمة. من هذه السجالات، على سبيل المثل لا الحصْر، النقاش المتكرر أو المكرور بين دعاة الوزن في الشعر ودعاة التخلي عنه. إنه سجال بلا أفق. ولكنه، مع ذلك، يتّسم أحيانا بالتعصب في هذا الجانب أو ذاك. فالمتعصبون للوزن هم كالمتعصبين ضدَّه، يختزلون قضايا الشعر في مسألة باتت هامشية أو ثانوية. وهم بذلك يشْبهون المتعصبين في كل حقل، إذْ يُهْدرون الوقت والجهد في صراعات أو معارك بلا جدوى، وإنْ كانت أحيانا باهظة التكاليف.

 يقوم الأدب بهذه المهمّة إذا استطاع أن يقوم بثورته الذاتية، أي إذا استطاع أن يثور على نفسه

المثل السابق يتيح لنا أن نقول إن التعصب في أي سجال - مهما يكن نوعه - يجعله سجالا عبثيا، وإن اتخذ أحيانا طابع الصراع العنيف أو الدموي.

 إن الثقافة لا تنمو ولا تتطور في أجواء من التعصب، لأن الأخير يعني الجمود، يعني تضييقا على الفكر ، إذْ يضعُ حدودا للمعرفة، أو بالأحرى يتبنّى نوعا من المعرفة النهائية أو المستقرة. وبهذا يكون إلغائيا أو غيرَ معترِف بالآخَر، أي بكل نوع آخَر من أنواع المعرفة. ولهذا، يكون التعصب عدوّا للثقافة، ومن شأنه أن يعرقل نموّها. والأدب، في كونه حقلا من الحقول الإبداعية للثقافة، لا يمكنه إلا أن يكون مناقضا للتعصب. ونحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى أن يلعب الأدب عندنا دوْره الرياديّ في إنتاج الثقافة العقلانية، ثقافة الانفتاح والرحابة.

معارك الأدب

للأدب أيضا معاركه. فما قلناه عن التعصب، وعن تصدي الأدب له، لا يعني أن هذا الأخير ليس له قضاياه، وأنه لا يخوض المعارك. أكثر من ذلك، هو سلاح من أمضى الأسلحة، سواء في مستوى الفرد وفي مستوى الجماعة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالوجود وبمعنى الوجود، أي عندما يكون الأمر مصيريا. وهذا ينطبق، كما أشرنا في البداية، على الحالة الفلسطينية من أولها إلى آخرها.

AFP
فلسطينيون يغادرون مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة بعد عودتهم لتفقد منازلهم لفترة وجيزة في 30 مايو 2024

المعركة التي ينبغي لأدبنا اليوم أن يخوضها هي معركة الانتصار لقيَم الحق والعدالة، دون أن ينسى نفسه، أي دون أن يتخلى - ولو جزئيا - عن قيَمه الأدبية أو الجمالية. فالأدب الذي يحمل قضية كقضية فلسطين، عليه في المقام الأول أن يكون أدبا يحظى بمقومات القوة والجمال. في هذه الحالة وحدَها يكون منتصرا فعلا لقضيته. أما إذا كان ضعيفا وسطحيا ومتهالكا على تكرار الشعارات، فسوف يكون له مردود عكسي إزاء قضيته، سيكون مسيئا لها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكتابات التي تواكب حدثا كبيرا، تكون في العادة كثيرة جدا، وتكون الجيدة منها قليلة جدا. ذلك لأن الحدث الكبير يستثير الحماسة لدى الراغبين في التعبير، ولو بطرُق قاصرة أو مفتعلة أو متسرعة. وهنا أيضا تبرز أهمية التمييز بين الغثّ والسمين من تلك الكتابات، وخصوصا في مجال الأدب.

نحن اليوم في طوْر بلغتْه القضية الفلسطينية يختلف عن أطوارها السابقة. نحن في معركة وجود، تمسّ  العرب جميعا ولا تقتصر على الفلسطينيين. لذا، هي معركة ينبغي للأدب العربي أن يكون جزءا منها، وينبغي له أن يخوضها بقوة وتماسك ومسؤولية. ينبغي لأدبنا اليوم أن يحمل هذه القضية المصيرية دون أن يفرّط بمقوماته الخاصة، بطبيعته الفنية الجمالية. أكثر من ذلك، ينبغي لأدبنا  اليوم  - في أوضاعنا العربية الراهنة - أن يستشرف آفاقا لرؤى جديدة، تتيح له أن يعمل على تكوين ذاته من جديد. بمثل هذا، يكون مخلصا لطبيعته التي تقوم أولا على الرحابة والانفتاح والتجدد، وترمي بعد ذلك إلى ابتكار الأمل، مهما يكن الظلام ثقيلا.

font change

مقالات ذات صلة