دروس من الماضي
الصوَر المشرقة في تراثنا الأدبي ابتكرها شعراء وناثرون تميزوا بعقول منفتحة لم ترضخ لنزعات التحديد أو التضييق أو التوجيه في اتجاه معين. ففي المرحلة العباسية من التاريخ العربي، تعرّض الأدب لمحاولات كثيرة دعتْه إلى التزام قواعد ومعايير ثابتة، من شأنها أن تجعله خادما لقيَم فكرية واجتماعية لا تتغير عبر الزمن. محاولات التدجين هذه، التي انطوت في جوهرها على أحادية أو تعصب، واجهها الأدباء والمفكرون المبدعون بعقلانية وانفتاح أدّيا إلى ظهور الصوَر المشرقة التي ألمحْنا إليها. هل نذكر مثلا عقلانية المعرّي؟ وغيره من الشعراء أو الفلاسفة (كالفارابي وابن سينا) أو اللغويين والبلاغيين (كابن جنّي والخليل بن أحمد وعبد القاهر الجرجاني). وهل نشير أيضا إلى بعض الحركات الصوفية التي جعلت العلاقة بين الله والإنسان مفتوحة بلا حدود، تعبيرا عن أقصى درجات الرحابة والتسامح؟ يقول ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان وديْر لرهبانِ
وبيتٌ لأوثان وكعبة طائف
وألواحُ توراة ومصحف قرآنِ
أَدينُ بدينِ الحب أنّى توجهت
ركائبُه فالحب ديني وإيماني
وفي كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيّان التوحيدي، أمثلة عدة لنماذج من الرحابة والعقلانية والمنطق. من ذلك المحاورةُ الجميلة بين عالم النحو أبي سعيد السيرافي وعالم المنطق أبي يونس القنّائي (كما يرويها أبو حيّان)، حيث نلمس مستوى عاليا من التفهّم والدقة في تبادل الآراء والحجج. وفي الكتاب نفسه كلام للتوحيدي عن النقد الأدبي، وعن العلاقة بين الشعر والنثر والفرق بينهما، ينمّ عن نباهة وتفتح ذهني يبتعدان أشدّ البعد عن أي تعصب أو تزمّت. فبعد عرضه لبعض الأقوال التي تفضّل الشعر على النثر، ولبعض الأقوال التي تفضّل النثر على الشعر، يُدلي التوحيدي برأيه، فيقول: "أحسنُ الكلام ما قامت صورتُه بين نظْم كأنه نثر ونثرٍ كأنه نظْم".
ألا نجد، في ما تقدّم من أمثلة، ابتعادا عن التعصب يفتح الفضاء واسعا أمام الإبداع في الفكر والأدب؟
دروس الحاضر
كيف لأدبنا اليوم أن يواجه غرائز التعصب والعنف؟
في رأيي، يقوم الأدب بهذه المهمّة إذا استطاع أن يقوم بثورته الذاتية، أي إذا استطاع أن يثور على نفسه، أو بالأحرى إذا استطاع أن يتجدّد في رؤاه وفي تقنياته. فمن طبيعة الأدب أيضا أن يتجدد في استمرار. وما يحيط به من ظروف ومستجدات يطرح عليه المزيد من التحديات.
أدبنا اليوم يقف إزاء مرحلة صعبة ومعقّدة، وعليه أن يعيَ خطورة المهمة التي ينبغي له أن يضطلع بها. وإذا كان من الصعب جدا أن يؤثّر في الواقع من حوله، فعليه - في الحدّ الأدنى - أن يتجنب التأثيرات السلبية التي قد تتسرب إليه من ذلك الواقع. ولما كان هذا الأخير ممزقا ومنتهَبا بفعْل الانقسامات والنزاعات التي يغذّيها التعصبُ وتغذّيه، فإن الأدب عليه ألا يتحول هو الآخَر إلى ساحة صراعات يتخفى وراءها التعصب. وهنا تبرز أهمية المواقف التي ينبغي للعاملين في حقل الأدب أن يتسلحوا بها. إنها المواقف التي تنْبذ التعصب، وتعمل على إشاعة مناخات من المرونة والتفهّم والتعددية والتنوّع والإقرار بمبادئ الحرية في التفكير والتعبير.
على العاملين اليوم في حقل الأدب أن يتجنبوا التحول إلى فريسة للنزاعات المذهبية التي تعصف بالواقع الراهن. عليهم أن يتجنبوا التقوقع، وألا يرتضوا لأنفسهم الإقامة أو التحرك في مساحات ضيّقة. عليهم ألا يقعوا أسرى المواقف الغرائزية أو الانفعالية. وهنا، يحسُن بنا الإقرار بأن الساحة الأدبية تشكو من التشرذم والضياع والفوضى. تشكو من صراعات في داخلها بين المواقف المتشنجة أو المتعصبة. وتشهد على ذلك نوعية السجالات الضحْلة التي لا تزال سائدة في هذه الساحة، على الرغم من كونها باتت مستهلَكة أو عقيمة. من هذه السجالات، على سبيل المثل لا الحصْر، النقاش المتكرر أو المكرور بين دعاة الوزن في الشعر ودعاة التخلي عنه. إنه سجال بلا أفق. ولكنه، مع ذلك، يتّسم أحيانا بالتعصب في هذا الجانب أو ذاك. فالمتعصبون للوزن هم كالمتعصبين ضدَّه، يختزلون قضايا الشعر في مسألة باتت هامشية أو ثانوية. وهم بذلك يشْبهون المتعصبين في كل حقل، إذْ يُهْدرون الوقت والجهد في صراعات أو معارك بلا جدوى، وإنْ كانت أحيانا باهظة التكاليف.