يكشف لنا كتاب "مكتب على السين" لمدير عام معهد العالم العربي في باريس السابق معجب الزهراني عن الكثير من خبايا الإشكاليات الإدارية التي واجهت المعهد أثناء عمله فيه، أو تلك التي ورثها منذ افتتاحه عام 1987، لكن الكاتب والناقد السعودي لم يقتصر على سرد هذه المشاكل بل دوّن الكثير من التفاصيل واليوميات التي تصوّر طبائع زملائه وانفعالاتهم.
بدا الزهراني في الكتاب، كما في ممارسته لإدارة المعهد، مشغولا بما يمكن أن يعمله أثناء فترة عمله لكونه أحد المشتغلين في المجال الثقافي العام. ولهذا وجدناه يعمل جاهدا من أجل توفير المال اللازم لإنجاح مشاريعه التي أنشأها وأبرزها سلسلة "100 كتاب وكتاب" وأنجزت بالتعاون مع مؤسسة "جائزة الملك فيصل" بالرياض. وتضمن المشروع التعريف بأعلام فكرية وفنية وعلمية فرنسية لها علاقة بالعالم العربي من خلال نشر كتب سيرية ومعلوماتية باللغة العربية عنهم، ومن هؤلاء لويس ماسينيون وأرنست رينان ومكسيم رودنسون وجاك بيرك وأندره ميكال ولودفيغ دويتش، إلى جانب نشر سير وتعريفات باللغة الفرنسية لأبرز أعلام العرب الذين كان لهم علاقة بالثقافة الفرنسية أو عاشوا في فرنسا من أمثال طه حسن ومحمود درويش وسعدالله ونوس وفيروز وآسيا جبار وواسيني الأعرج وعبدالله الغذامي وعلي محمد زيد. ويبدو لي أن هذه الكتب لو نشرت على نطاق واسع بطبعات شعبية سيكون لها أثر كبير في التعريف بأعلام العرب في فرنسا وبالأعلام المهتمين بالثقافة العربية في العالم العربي.
من المشاريع اللافتة الأخرى التي أحياها الزهراني مشروع كرسي معهد العالم العربي الذي استضاف فيه مفكّرين عربا لتقديم أطروحاتهم خلال أيام خاصة في المعهد.
لا يتحرّج الكاتب من ذكر الأسماء التي حاولت أن تعيق بعض مشاريعه أو طموحاته، أو تلك التي كانت سببا في بعض المشاكل الإدارية
لا يتحرّج الكاتب من ذكر الأسماء التي حاولت أن تعيق بعض مشاريعه أو طموحاته، أو تلك التي كانت سببا في بعض المشاكل الإدارية، بل إنّه يمضي إلى الكشف عن انعكاس بعض توترات الدول العربية على موظفي المعهد، فنجد مغربيا مثلا يتهم جزائريين بأنهم يشكّلون لوبيا خاصا بهم، فيما يكون هو على خطأ كما يبين الكاتب، ولا صحة لاتهاماته. كما نجد فنانا مثل الجزائري رشيد قريشي يظن أن إدارة المعهد في ذلك الوقت كانت "متحيّزة للمغرب ضدّ بلده".
وإذ يذكر أسماء موظفين وإداريين في المعهد سواء بأسمائهم أو بتوصيفه لأعمالهم وسلوكهم، فإن الكتابة هنا تحيل إلى معجب الزهراني الروائي صاحب رواية "رقص"، حيث لا يصبح هدف الكتابة سرد خبرة إدارية وإنّما محاولة لتشخيص الممارسات اليومية لهؤلاء الموظفين، فنرى منافساتهم وشكاويهم وخمولهم الذي اعتادوا عليه خلال سنوات طويلة. وذلك في سرد مشوق يأخذنا إلى تتبع التفاصيل، في منحى يذكّرنا بكتابي غازي القصيبي "حياة في الإدارة" و"الوزير المرافق"، ولا غرابة من هذا التذكير وقد شغل الزهراني منصب المشرف العام على "كرسي غازي القصيبي للدراسات الثقافية" في جامعة اليمامة.
فها هو مثلا يصف جاك لانغ رئيس المعهد ووزير الثقافة الفرنسي السابق بـ"الهَرِم المرهَق المتجهِّم" الذي لا ينفصل ولعه بالعمل والإنجاز عن "تعلّقه الغريب بالإعلام، وبالصور خاصّة". وعلى هذا المنوال نجد توصيفات لأسماء يفصح عنها كليلى شهيد والمعطي قبال ورشيد قريشي والطيب ولد العروسي، وبعضهم لا يفصح عنهم ونستشف من توصيفاته أنه يعني فلانا أو فلانة، كما هو حال الكاتب الليبي الذي جاء طالبا وظيفة في المعهد.
يصف جاك لانغ رئيس المعهد ووزير الثقافة الفرنسي السابق بـ"الهَرِم المرهَق المتجهِّم"
يتحدث الزهراني عن سعيه لدى المؤسسات الثقافية العربية من أجل إنجاح المشاريع التي يتبناها المعهد كالمعارض والندوات وتدريس اللغة العربية، ولا يخفي كواليس تعيين المدير العام للمعهد الذي يتم بالتنسيق مع مجلس السفراء العرب في باريس وبموافقة فرنسية، ويذكر أنه قابل شخصين من تونس والعراق أبديا أسفهما لأنّه حاز المنصب بينما كانا هما أحق به، حسب قولهما. ويشير إلى ما يواجه المعهد من مشاكل مالية، وهي المشاكل التي يبدو أنها تزداد مع كلّ دورة إدارية جديدة. حتى أن مدير المعهد الجديد الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير استغرب من عدم دعم العرب ماديا لهذه المؤسسة الثقافية التي يرى أنها محفل نادر للثقافة العربية "لا يوجد له مثيل في العالم". وكما قال في لقاء خاص معه إن المعهد خلال أربعين عاما "خدم الثقافة العربية في فرنسا وفي العالم بما لم يحصل في أي دولة عربية أو غير عربية".
من يزر المعهد يدرك ما يقوله شوقي، وما قاله الزهراني في كتابه، عن أهمية هذا الصرح الثقافي في أهم عاصمة ثقافية أوروبية، حيث لا تخلو لحظة من أيّام المعهد دون أن نرى فيها العشرات من الزوّار لمعارضه ومسارحه ومكتبته العامة ومتجر الكتب الذي يحوي مئات الكتب عن العالمين العربي والإسلامي بالفرنسية والعربية.