تشكل سيرة الإرهابي "سقراط خليل" فرصة كشف استثنائية لباحثين في علوم التاريخ والسياسة والاجتماع وحتى علم النفس الخاص بمنطقتنا. فالإرهابي الذي ألقت الأجهزة الأمنية في إقليم كردستان القبض عليه منذ عدة أسابيع، وكان طوال سنوات كثيرة واحدا من أهم مساعدي زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي، ومسؤولا عن "قطاع التفخيخ"، حيث أشرف ونفذ هذا الإرهابي مئات العمليات التي أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين على الأقل، حتى إنه صار يُكنى بـ"عبد الله تفخيخ". هذا غير مشاركته في كل حروب "داعش" منذ البداية، حتى صار واحدا من قيادته الميدانية، بالتحديد أثناء حكمها لأوسع منطقة من سوريا والعراق، ثم صار مبعوثا متنقلا بين عدة دول لصالح قادة التنظيم، يوفر الأموال والدعم اللوجستي للتنظيم لمتابعة جرائمه، ومع كل ذلك كان اسمه مطابقا لاسم الفيلسوف الإغريقي وأحد مؤسسي الفكر الإنساني "سقراط".
ما سيشغل الباحثين هؤلاء، هو ذلك البون الشاسع بين جيلي الأب والابن، وما يُشكله ذلك من دلالة واضحة على السياق التاريخي، السياسي والاجتماعي والفكري، الذي مرت به منطقتنا. فالأب الذي سمى ابنه على اسم فيلسوف غربي، في مدينة شديدة المحافظة والتقليدية مثل الموصل، كان دون شك يحمل في ذاته بذور نزعة ورغبة تحديثية، رغم انحداره من قلب ونسيج مدينة مثل الموصل. فلو كان الإرهابي سقراط من مواليد أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، فإن الأب غالبا سيكون من مواليد أواخر الخمسينات، أي الجيل العراقي الذي عايش تجربة الانقلابات العسكرية في طفولته، ونضال الأحزاب الأيديولوجية ودعواتها التقدمية في يفاعته، وشهد التنمية الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية الانفجارية في عهد "البعث الأول"، في سبعينات القرن المنصرم، وتاليا كان الجيل العراقي الأول الذي انفصم عن نسق الحياة التقليدية في الريف والمحافظة في المُدن، وصار جزءا من الكل العالمي.
ليس من معلومات شخصية تفصيلية كثيرة عن والد الإرهابي سقراط، لكنْ ثمة صور لطلاب المدارس والجامعات من أبناء جيله، في مدن الموصل وبغداد والسليمانية، وغيرها من المدن العراقية، أغلب الظن أنه كان واحدا من هؤلاء، أو على الأقل من معاصريهم. وثمة صور أخرى لرواد المسارح ودور السينما من الجيل نفسه، بأزيائهم الحديثة وحضورهم الاجتماعي الحُر. إلى جانبها، هناك مقاطع مصورة لجمال الحدائق والساحات العامة ونظافتها وانتظام المارة وسط مدن البلاد الرئيسة، تم تشييدها في ظل استقرار أمني وفيض من الأموال بعد فورة أسعار النفط أوائل السبعينات، فيما ظهر "صدام حسين الأول"، كشاب يريد قيادة بلاده لتكون شيئا شبيها بتركيا أتاتورك وإيران محمد رضا بهلوي.
قُبالة ذلك، ثمة كمٌ من الوقائع على السيرة الشخصية والعامة التي عاشها الابن. فولادته كانت ملازمة لهزيمة كبرى مُني بها نظام "حزب البعث" في مواجهة إيران في النصف الثاني من ثمانينات القرن المنصرم، التي أفرزت "صدام حسين الثاني"، الحاكم الباطش بأبناء شعبه أجمعين، مرتكب المجازر المروعة، من حلبجة إلى الجنوب، الممتلئ بنقمة عدوانية تجاه كل ما يحيط به، دفعته لأن يغزو الكويت، ويُهزم مرة أخرى، ليصير "صدام حسين الثالث"، المستجير بخطابات دينية/طائفية، اتخذها سندا لاستقرار حكمه طوال عقد التسعينات، حيث عاش الإرهابي سقراط طفولته ويفاعته.
الأكثر إثارة للانتباه أن المدينة التي عاش الإرهابي طفولته ويفاعته فيها، والتي كانت مرتعا لصراعات العشائر وحلقات الفرق الدينية وسطوتها الاجتماعية منذ هزيمة عام 1991، بسبب ما منحها النظام الحاكم من دعم ورعاية، انقلبت بعد سنوات قليلة، لتكون مسرحا رهيبا لكل أشكال الكراهية، يمارس ويطبق نظام ما بعد 2003 كل سياساته الطائفية وسطوته الرعناء عليها وعلى سكانها، حيث ظل يراهم جميعا "بيئة حاضنة للإرهاب". وصار يتصرف حسب ذلك المعيار. وتركهم في المحصلة أعتى فرقة قتل عام عابرة للحدود، ما راكم كراهية جذرية للكثيرين من جيل الإرهابي سُقراط، الذين غرقوا بيُسر في الخطاب المناهض، وإن كان متطرفا، غير عابئين بكل ما يذهبون إليه من عنف عدمي.
ما سيشغل الباحثين، هو ذلك البون الشاسع بين جيلي الأب والابن، وما يُشكله ذلك من دلالة واضحة على السياق التاريخي، السياسي والاجتماعي والفكري، الذي مرت به منطقتنا
بهذا المعنى، فإن المسافة بين سيرتي الأب والابن، هي بالضبط ترجمة حرفية لنكوص متلاحق عاشه العراق طوال هذه العقود والتجارب، كانت مدينة الموصل، بسبب موقعها وتنوعها وحساسياتها الأهلية والسياسية الواضحة، نقطة مركزية انعكست عليها تلك التحولات.
لكن التحولات الحياتية/السياسية بين الجيلين، ليست إلا واحدة من الدلالات البليغة في ملف الإرهابي سُقراط.
مثلا: كيف لشخص قضى كل حياته في مدينة ما أن يُدمرها عن بكرة أبيها؟ وما الفداحة التي أدت بشاب يملك كل سمات حُسن المظهر وطلاقة الحديث والذكاء الاجتماعي، حسبما ظهر في المقطع المطول الذي نشره "مجلس أمن إقليم كردستان"، ومعه أموال طائلة وعاش في دول وبيئات مختلفة، وبعدما قُتل كل قادته السابقين، كيف له أن لا يختار سلوك عيش آخر غير التمعن في قتل الأبرياء، أو التخطيط لذلك؟ كيف له أن يبقى متسمرا على خياراته الأيديولوجية وتوجهاته السياسية مع كل الهزائم التي شهدها مشروعه السياسي على مستوى المنطقة؟ حتى إنه خلال التسجيل نفسه بقي يُسمي "داعش": "الدولة"، والآخرين: "الأعداء".
إلى جانب ذلك أسئلة أخرى: ما نوعية الألعاب الشيطانية لأجهزة استخبارات الدول، التي كان الشخص/اليد اليُمنى لزعيم "داعش" يتجول بينها طوال سبع سنوات، محملا بملايين الدولارات، وعلى تواصل حميم مع قادة التنظيم، بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، دون أن يلقوا القبض عليه؟ ومن هُم هؤلاء الناس/الأعضاء في البيئات المحلية، الذين بقوا سنوات كثيرة متواصلين مع إرهابي بهذه الخطورة، يؤمنون له شبكة تسهيلات وتغطية لوجستية؟ أي نوع من العلاقة تربطهم بدولهم ومجتمعاتهم؟
في المحصلة، ثمة السؤال الأعمق: خلال كل هذه المدة، حيث عاش الإرهابي سُقراط أنماطا أخرى للحياة، سمحت لوجهه أن يُصبح نضرا، كما ظهر في المقطع المصور، ولتسريحة شعره أن تكون حديثة، وعلى الوجه دلالات على عمليات تجميل أجراها الإرهابي بغرض تحسين المظهر لا تبديل الملامح لغرض أمني، وصار يستخدم أثناء حديثه بعض الكلمات والمصطلحات الإنكليزية بين جملة وأخرى، في ما يبدو واضحا أنه ينتقي زيه ونظارته الشخصية بعناية بالغة، تدل كلها على تبدلات حياتية جذرية طرأت على الإرهابي سُقراط. لكن طوال هذه المُدة أيضا، عرضت وسائل الإعلام وشبكات التواصل آلاف المقاطع المصورة لفتيات إيزيديات تعرضن لأشنع أشكال التعذيب والانتهاك، وكُشفت مقابر جماعية، ضمت آلاف المدنيين والأطفال من أبناء مدينة الموصل وغيرهم من الذين حكمهم التنظيم الإرهابي، وظهرت مئات الأمهات الثكلى من ذوي ضحايا التنظيم، تعبرن عن ألم مكين لما طال أبناءهن، ومثلها أشياء كثيرة أخرى، لا شك أن الإرهابي سُقراط شاهدها مرات لا تُحصى، لكن دون أن تهز عقله ووجدانه الباطن بقدر ذرة.
يبدو، كما قال الفيلسوف الإغريقي سُقراط نفسه، كآخر جملة في حياته: "كريتو، نحن مدينون بديك لأسقليبيوس، لا تنسوا سداد الدين". أما الدين الذي علينا أن ندفعه، فهو إيماننا بأن تسمية أحد أبنائنا على اسم "فيلسوف الفضيلة"، لا تكفي لأن نتأكد من أنه سيكون فيلسوفا مستقبلا، ولا فاضلا، ففيض الأشياء الكبرى، وعلى رأسها الكراهية، أكبر من كل الأحلام الفردية.