ستيفن زيليان يرسخ مسيرته التلفزيونية في "ريبلي"https://www.majalla.com/node/318536/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B3%D8%AA%D9%8A%D9%81%D9%86-%D8%B2%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%B1%D8%B3%D8%AE-%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%AA%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%84%D9%81%D8%B2%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D9%84%D9%8A
يقتبس مسلسل "ريبلي" Ripley أحد إنتاجات منصة "نتفليكس" الحديثة، رواية الإثارة النفسية للكاتبة باتريشا هايسمث، التي تتحدث عن توم ريبلي، المجرم الذي يحصل على قوت يومه من خلال الاحتيال على ضحاياه، وتأتيه فرصة ذهبية لتغيير حياته الى الأبد حينما يكلفه رجل أعمال ثري من نيويورك الذهاب في رحلة إلى إيطاليا لإيجاد ابنه وإقناعه بالعودة إلى أرض الوطن في رحلة مدفوعة التكاليف بالكامل مع مرتب مجز. وسبق اقتباس هذه الرواية في فيلم The Talented Mr. Ripley المعروف.
"ريبلي" من كتابة وإخراج ستيفن زيليان، وهو كاتب ناجح في اقتباس الروايات حيث عمل مع مارتن سكورسيزي في "الأيرلندي" ومع ديفيد فينشر في "الفتاة ذات وشم التنين"، لكنه بدأ بالتحول الى صناعة الأعمال التلفزيونية في 2016 في مسلسل The Night Of، من بطولة أندرو سكوت وداكوتا فانينغ وجوني فلين وإيليوت سومر وماوريزو لومباردي.
بالنسبة إلى كونها تجربة زيليان الإخراجية التلفزيونية الثانية، هناك اهتمام أكبر بالتفاصيل البصرية على الشاشة، وهو أمر غير مستغرب. تتحدث الرواية عن رجل محتال تسحره حياة أصدقائه الأثرياء ونمط معيشتهم الباذخ، لذلك يقضي المسلسل وقتا طويلا في إشباع الشاشة بتفاصيل هذه الحياة من مأكل ومشرب وملابس وفنون ومقتنيات. هذا الإشباع البصري يمتد إلى أكثر من تفاصيل البذخ، منذ الحلقة الأولى نشهد تأنيا غير مسبوق في رواية الأحداث، ويستبدل المسلسل أي أسلوب سردي سهل مثل الحوارات أو صوت راو، بمشاهد حقيقية لتوم وهو ينجز أعماله وينفذ مخططاته.
هذا النوع من التأني والإخلاص في السرد المرئي هو أمر نادر الحدوث خصوصا في التلفزيون
في الحلقة الثالثة تحديدا حينما ينفذ توم أولى جرائم القتل، يقضي المسلسل ما يقارب نصف مدة الحلقة وهو يتابع تصرفات توم وطريقة تخلصه من الجثة دون أي مشهد حواري على الإطلاق، مجرد كاميرا موجهة على توم وهو يحاول الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه. هذا النوع من التأني والإخلاص في السرد المرئي -الذي قد يكون مصدرا للملل أحيانا- هو أمر نادر الحدوث خصوصا في التلفزيون، في عصر يضج بالسرعة وتتنافس منصات البث على جذب انتباه المشاهدين الذي يتناقص باستمرار ويظفر به أكثر الأعمال المرئية صخبا وتحفيزا للحواس.
يقتبس المسلسل أسلوب أفلام "النوار" Noir وتحديدا في حلقاته الأولى، الطريقة التي نتتبع فيها شخصية توم في رحلته من نيويورك إلى إيطاليا لا تشعرنا بأننا أمام محتال يحاول انتحال شخصية صديقه، بل أمام محقق يحاول فك شيفرات جريمة قتل معقدة. لكن حينما يبدأ هوس توم بنمط حياة ديكي (جوني فلين)، يكتسب المسلسل طبيعة تأملية، فيستغرق في تصوير الملابس التي يرتديها ديكي والإكسسوارات الثمينة التي يمتلكها، لأن توم ريبلي لم يعد يشاهد هذه الأمور بأعين اللص الذي يريد أن يسرقها، بل بأعين شخص يقدر هذه الأمور ويريد امتلاكها حتى يرتقي السلم الاجتماعي. تمتد هذه الفكرة التأملية بعد أن يبدأ توم بالتعرف الى الفن واستكشاف المتاحف المجاورة له، ونلاحظ إعجابه تحديدا بالرسام كارافاجيو الذي نلاحظ مع مضي الحلقات وجوه تشابه بينه وبين توم ريبلي، ليس من ناحية الطبيعة الإجرامية فحسب بل حتى الميول الجنسية.
وهذا من أكبر الأسئلة التي يطرحها هذا العمل، ما السبب الحقيقي وراء هوس توم ريبلي بحياة ديكي؟ هل هو انجذاب عاطفي تلوث بدماء ضحيته أم هو مجرد جشع لص يريد أن يتذوق حياة لن يمتلك فرصة أفضل من هذه لاقتناصها؟ أعتقد أن تفسير ستيفن زيليان لأحداث الرواية هو أن توم مهووس بالقامة الاجتماعية التي تأتي بسبب ثراء الشخص. لأننا لم نشاهد توم إطلاقا يغرق نفسه بملذات مادية، لم يشترِ سيارات باهظة الثمن أو تناول وجبات في أفخم المطاعم أو حتى حاول إغراء أي فتاة حسناء بثرائه، فكل ما يريده ويسعى إليه هو الهالة المقدسة التي يشعر أنها تحيط به حينما يلاحظ عامل استقبال فندق يسكن فيه مؤقتا، القلم الثمين الذي يمتلكه، فهو لا يريد الثراء مثلما يريده الناس، بل يريده لأجل الاحترام الذي يفرضه، احترام لم يمتلكه من قبل.
في ظل هذا الإبداع البصري، يترك المسلسل انطباعا بأنه مصقول أكثر من اللازم
يقدم أندرو سكوت أداء جذابا، يبتعد كثيرا عن طبيعة ما قدمه مات ديمون في نسخة فيلم 1999، فهو قبل أن يكون شخصا مهووسا بالحالة الاجتماعية لصديقه وله ميول جنسية مجهولة، محتال بمستوى رفيع. نصبح شاهدين على كيفية تطور أساليبه في خداع من حوله، من خلال تكوين شبكة من الأكاذيب الصغيرة التي إما من شأنها زعزعة من حوله بحدسهم وثقتهم بأنفسهم، أو اكتساب ثقتهم بالكامل وتأصيل نفسه كشخص جدير بالثقة. هناك حميمية في تخصيص مشاهد كاملة من المسلسل لمتابعة توم يمارس حرفته، مزورا جوازات سفر وتواقيع ووثائق رسمية بكل مهارة، وعلى الصعيد الشخصي يستطيع تأسيس كذباته من طريق زرع معلومات بسيطة وغير مترابطة في أذهان ضحاياه تحسبا لأي ظرف طارئ كأن يُستجوبون من الشرطة.
نظرا الى الحقبة الزمنية التي صوّر المسلسل خلالها، استطاع زيليان وفريق الإنتاج المرافق له صنع عمل بصري مبهر، كل كادر منجز بحرفية مبهرة تجعلنا نقدّر تماما سبب إعجاب توم ريبلي بالحياة في إيطاليا. لكن في ظل هذا الإبداع البصري، يترك المسلسل انطباعا بأنه مصقول أكثر من اللازم، هناك تكلف في كل زاوية تصوير وكل مشهد، وذلك يعطّل انسيابية السرد، واختيار تصوير المسلسل بالأبيض والأسود لم يساعد على ذلك إطلاقا لأن هذا الكم من التفاصيل المصورة والبدلات الأنيقة، يرتبط بإعلانات العطور أكثر منه بأعمال الحقب التلفزيونية. وفي المجمل، فإن "ريبلي" تجربة تلفزيونية أخرى ناجحة تضاف الى سيرة ستيفن زيليان المخضرم الذي، بين تعاوناته السينمائية الناجحة مع كبار مخرجي السينما، يجد وقتا لاختيار مشاريع تلفزيونية شيقة.