العمل الفني العظيم لا يموت. لذلك ستجد مقالات لا تزال تدبّج عن رواية جوزيف كونراد "قلب الظلمات" رغم أنه كتبها في 1899. قديما كتب عنها الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي فنفى عنها الإبداع والتميز ووصفها بأنها قصة عنصرية وكذا صاحبها. لا شك أن أتشيبي كاتب عظيم لكن يبدو أنه جانب الصواب، إذ طبق بشمولية نظرية مؤسس ما بعد الكولونيالية إدوارد سعيد.
في "النوفيلا" عبارات عنصرية بلا شك، وهذه العبارات مثلما هي موجودة عند الأوروبيين هي موجودة عند العرب والشرقيين والغربيين، ولا تخلو بلاد منها. لا أستطيع نفي العنصرية عن البشر. وإذا أضفنا إلى ذلك أننا نتحدث عن القرن التاسع عشر، فينبغي ألا نطالب الناس بالمستحيل والحديث بلغة غير لغة عصرهم، إلا إذا كنا سنمسح تراث الإنسانية كله. لا يمكن لمن عاشوا وماتوا قبل 1948 أن يراعوا بنود الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. ولا أدري كيف يتهم نص بديع يعتبره نقاد من أجمل مائة نص في الإنكليزية بأنه يجسد الاستعمار.
يبدو أن دارسي هذا الكتاب غرقوا في قضية العنصرية والكولونيالية حتى غاب الغرض الأساس الذي بسببه كُتب. فالمسألة عند كونراد لا علاقة لها بالعنصرية ولا الكولونيالية، وإنما هي عن شخصيات استثنائية لقيها في حياته العاصفة وهو يضرب بطون البحار. الرواية – بدرجة أولى - عن السيد كورتز الذي وصفه كونراد منذ البداية بالقول إنه Gone Native أي "تحول إلى متوحش" و"متوحش" هنا لا تعني ما نفهمه اليوم من الكلمة، بل تعني أنه تحول إلى واحد من السكان الأصليين، يلبس ملابسهم ويتبنى قضيتهم ويحبهم. هو لم يتحول إلى مطالب بحقوق الإنسان، فقد نصب على الرماح، سبعة من رؤوس أعدائه. لقد أصيب بالجنون لكثرة ما رأى من رعب. إنه رجل كره زيف الحضارة الغربية وبدا له أن حياة "المتوحشين" أصدق وأقرب إلى الاحترام، فقرر البقاء في صورة من الجلال والجمال حتى صار أولئك البسطاء يتخيلون أنه الإله، أو هكذا تصور هو نفسه، أو هكذا صوّر نفسه لهم.
يبدو أن دارسي هذا الكتاب غرقوا في قضية العنصرية والكولونيالية حتى غاب الغرض الأساس الذي بسببه كُتب
شخصية كورتز فتنت الفنانين من بعد كونراد فاقتبسوها في تحف سينمائية خالدة. ومنهم فرانسيس فورد كوبولا في فيلمه "القيامة الآن" الذي يحكي قصة ضابط أميركي مختلف واستثنائي يتحول إلى المعسكر الآخر في حرب فيتنام. جَلد أخلاقي رفيع لمهزلة فيتنام، حيث الضابط الذي يحب رائحة قنابل النابالم في الصباح، وتفاهة الجيش الذي يجيء إلى البلاد ويروح وهو لا يدري ما يفعل في تلك الأرض البعيدة، ولا عن أي قضية ينافح.
وقد أصرّ كوبولا على أن يؤدي مارلون براندو دور كورتز، وإن كنا سنتخيله فلن نجده إلا براندو. براندو بدوره لم يكن بعيدا عن الجنون.
في هذا النص يرد وصفه "لم أر شيئا محطما مثله". إنه الإنسان الأخلاقي الذي حطمه الشر فصار شريرا، مرهقا من الوجود يبحث عن أسهل طرق الخلاص. كان يبحث عمن يقتله.
ونجد شخصية مشابهة في رواية مايكل بليك "الرقص مع الذئاب" عن ضابط أميركي يتحول بعد الحرب الأهلية إلى مناصر للسكان الأصليين، حتى أنه يرفض التحدث بالإنكليزية حين يقع في الأسر. ويتكرر الاقتباس مع جيم هاريسون في "أساطير الخريف" حيث يظهر تريستن ابن ضابط أميركي يذهب إلى الحرب العالمية الأولى ليرى الرعب هناك، رعب الحرب والشر الذي يحكم العالم فتتمزق روحه وينازعه الجنون وهو يتحول واحدا من السكان الأصليين. مرة أخرى، يبدو السكان الأصليون وجه البراءة الأولى للإنسانية، قبل العقل الغربي الحديث وما جرّه من ويلات.
ثمة عبارة اشتهرت عن كونراد قد تكون مناسبة هنا: "البحث عن سبب فوق طبيعي للشر الذي يسود العالم أمر غير ضروري، فالبشر وحدهم يكفون".