اجتمع الآلاف من العاملين في مجال الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي في سان فرانسيسكو في مايو/أيار الماضي لحضور مؤتمر "آر. أس. إيه." (RSA) الشهير في دورته الثانية والثلاثين. يعقد هذا المؤتمر سنويا ويعتبر حدثا مهما في مجال أمن التكنولوجيا لما يقدمه من أحدث التقنيات في الأمن السيبراني وأمن المعلومات. يجمع هذا المؤتمر معظم شركات التكنولوجيا ونخبة الخبراء من كل انحاء العالم لعرض ما توصلوا إليه من طرق لمحاربة الجرائم السيبرانية وتطبيقات جديدة للذكاء الاصطناعي.
إلا أن هذه السنة شهدت تطورا جديدا وهو حضور رسمي أميركي رفيع تمثل في وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن، وإعلان استراتيجيا أميركية دولية للأمن السيبراني توضح رؤية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للتعامل مع مجموعة من قضايا الأمن التكنولوجي. وضعت هذه الاستراتيجيا عبر تحالفات بين الولايات المتحدة ودول العالم والشركات التكنولوجية، لحوكمة الفضاء السيبراني وجعله أكثر تنظيما وأكثر خدمة للبشرية.
ويمهد أي فشل للولايات المتحدة في تكوين هذا التحالف الدولي التكنولوجي، الطريق أمام خسارة السباق التكنولوجي الحالي لصالح روسيا أو الصين. وهذا ما تخشاه أميركا لأن من يمتلك القدرات التكنولوجية هو من يضع الشروط والقواعد الحاكمة أولا.
صارت التكنولوجيا جزءا أساسيا في النظام الدولي، الذي تسعى واشنطن الى تأكيد سيادتها عليه، والأهم تكوين تحالف دولي يضم أكبر عدد من الدول تحت قيادتها، كما تفعل في السياسة الدولية التقليدية
حضر المؤتمر أيضا وزير الأمن الداخلي الأميركي، أليخاندرو مايوركاس، معلنا أن وزارته عقدت أول اجتماع لهيئة الذكاء الاصطناعي في الوزارة كمحاولة لتقنين دور التكنولوجيا وتقليل آثارها السلبية كالقرارات المنحازة ضد مجموعات عرقية أو دينية معينة كالتي تصدر عن الذكاء الاصطناعي. وتتكون "هيئة الذكاء الاصطناعي" من مجموعة من خبراء هذه التكنولوجيا، في مقدمهم سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه. آي."، والعديد من الشخصيات الحكومية وشركات البنية التحتية التكنولوجية.
القيادة التكنولوجية الدولية
يظهر الحضور الأميركي الرسمي في هذا المؤتمر تصاعد الاهتمام بقضايا الأمن السيبراني وعلاقته بتحديات الأمن التقليدي، حيث صارت التكنولوجيا جزءا أساسيا في النظام الدولي، الذي تسعى واشنطن الى تأكيد سيادتها عليه بامتلاكها أحدث تقنياتها، والأهم من ذلك، تكوين تحالف دولي يضم أكبر عدد من الدول تحت قيادتها، كما تفعل تماما في السياسة الدولية التقليدية. لا تقتصر المنافسة على البر والبحر والجو فقط، إنما أضيف مجالان مهمان، وهما الفضاء والأمن السيبرانيان، اللذان يعتبران في معظم الأحيان، حيويين لتحقيق الأمن في المجالات التقليدية.
تعتمد الاستراتيجيا الجديدة على فكرة التعاون الرقمي الدولي الذي تحاول من خلاله واشنطن تشكيل مستقبل المعلومات والتكنولوجيا. ترى واشنطن أن هذا المستقبل مبني على تحالف مع الدول التي تشارك الولايات المتحدة القيم والمعايير نفسها، وعلى مبدأ القوة من خلال التكاتف الدولي. وفيما صرح بلينكن بأن الولايات المتحدة لا تسعى الى فرض هيمنتها على التكنولوجيا في العالم، أكد أن الاستراتيجيا الجديدة تهدف الى خلق معايير تسمح بمستقبل آمن ومفتوح لاستخدام التكنولوجيا وفقا لرؤية الولايات المتحدة وما معها من دول وشركات.
وجهت الاستراتيجيا الجديدة انتقادات لاذعة الى الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران لاستخدامها التكنولوجيا في شن هجمات قرصنة على دول أخرى من خلال رعايتها مجموعات التهديد المستمر
تسعى الولايات المتحدة من إعلان كهذا، الى إيصال رسائل سياسية الى منافسيها، في مقدمهم الصين وروسيا، بأنها تريد توفير مناخ للتكنولوجيا يعمل لصالح البشرية وليس لشرها. تكنولوجيا تحترم حقوق الإنسان بعدم التجسس عليه من دون إذن قضائي وتساعد في الوصول الى علاج أمراض كثيرة من خلال البحث في كم هائل من البيانات، ويكون لها دور في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لوضع خرائط للأراضي الزراعية، مما يزيد إنتاجية المحاصيل الزراعية ويحد من المجاعة العالمية، في وقت تتهم واشنطن روسيا والصين بأنهما تستخدمان التكنولوجيا لأغراض سياسية ومضرة بالبشرية. تشمل هذه الأغراض مراقبة المواطنين وقمع الحريات، وكذلك إحكام السيطرة على سلاسل الإمداد والتوريد لصناعات مختلفة للتحكم في قرارات دول أخرى.
مساعدات مالية وتقنية
هذا بالإضافة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الاستقطاب والانقسام في دول أخرى ونشر معلومات مضللة دوليا. حيث وجهت الاستراتيجيا الجديدة انتقادات لاذعة الى الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران لاستخدامها التكنولوجيا في شن هجمات قرصنة على دول أخرى من خلال رعايتها مجموعات التهديد المستمر المتقدم (Advanced Persistent Threat)، وهي مجموعات مدعومة من أنظمة الدول وتضم خيرة القراصنة الإلكترونيين. بالإضافة إلى ذلك، قامت هذه الدول بمحاولات تعطيل المنظمات الدولية العاملة في المجال التكنولوجي لإحداث نوع من العشوائية يمكنها من تنفيذ هجماتها غير القانونية.
خصصت الإدارة الأميركية 50 مليون دولار لتمويل صندوق الفضاء الإلكتروني والفضاء الرقمي الذي أنشأته حديثا لتقديم المساعدات التقنية الى حلفائها، وخصوصا الدول النامية التي ليس لها القدرة الكافية على حماية نفسها من الهجمات السيبرانية. تشمل هذه المساعدات وسائل وتقنيات لحماية الكابلات البحرية في قاع البحار والمحيطات لتوفير الإنترنت وخدمات الاتصالات للمناطق البعيدة. تعتبر الكابلات البحرية من أهم البنى التحتية في العالم للاتصالات ونقل المعلومات بسرعة وفاعلية وتأمين جزء أساسي من أمن المعلومات.
تخشى واشنطن من أن تتجسس شركات الصيانة الصينية من خلال تعقب حركة البيانات والمعلومات عبر كابلات في أعماق البحار، مما يعرض الأمن القومي الأميركي للخطر
فقد صرح مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية لصحيفة "وول ستريت جورنال" أن الولايات المتحدة رصدت وجود بعض الشركات الصينية في المحيط الهادئ، المتخصصة في صيانة هذه الكابلات في أعماق البحار، وإخفاء مواقع السفن الخاصة بالشركات من الرادارات البحرية. إذ تخشى واشنطن من أن تقوم هذه الشركات الصينية بالتجسس من خلال تعقب حركة البيانات والمعلومات عبر هذه الكابلات، مما يعرض الأمن القومي للولايات المتحدة للخطر.
ومن المعلوم أن عمالقة الشركات التكنولوجية الأميركية أمثال "غوغل" و"أمازون" و"ميتا" تمتلك كابلات بحرية خاصة بها، ولكنها تعتمد على أطراف غير أميركية لإصلاحها وصيانتها. وتبحث إدارة بايدن الطرق التي تجعل الأطراف الأجنبية خاضعة للقوانين والمراقبة من قبل السلطات في واشنطن للتأكد من قيامها بأعمال الصيانة فقط وليس التجسس وتعقب المعلومات.
تريد واشنطن أيضا تقديم خدمات حوسبة سحابية آمنة تعتمد على الذكاء الاصطناعي القائم على احترام الخصوصية ويراعي القانون الدولي لحقوق الإنسان. هذه المساعدات تحقق هدفين استراتيجيين للولايات المتحدة. الهدف الأول هو تأمين الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية من دول وشركات العالم لتأكيد فرض الهيمنة التكنولوجية الأميركية، ولكن من طريق تقديم المساعدات. والهدف الثاني هو تحقيق عائد مادي يمكن الشركات الأميركية من مواصلة الأبحاث ذات الصلة. بمعنى آخر، تريد الولايات المتحدة من خلال هذا التحالف المزمع إنشاؤه ملء الفراغ في الفضاء السيبراني ومجال أمن المعلومات بمنتجات وشركات أميركية تراعي القانون الدولي لحقوق الانسان واستخدام التكنولوجيا لأغراض جيدة. وبالتالي الحفاظ على المصالح الأميركية ومصالح حلفائها ضد محاولات الصين وروسيا لفرض سيطرتهما على التكنولوجيا في العالم.
الاستراتيجيا الأميركية للتعامل مع الفضاء السيبراني وتصور واشنطن لحوكمة هذا القطاع ليست بالجديدة. حيث قادت واشنطن جهودا دولية لتمرير أول قرار أممي للذكاء الاصطناعي في مارس/آذار الماضي. وحث القرار الدول على الاستخدامات الآمنة للذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أن القرار غير ملزم للدول التي صوتت عليه، ولكنه خطوة مهمة للتركيز على ضرورة تمرير قوانين ملزمة محلية أو قوانين دولية تتعلق بالذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني، وعدم ترك هذه القضايا المهمة لدول تهدد الأمن والسلم العالميين باستخدامات خاطئة للتكنولوجيا.
كيف يمكن لواشنطن فرض قيم ومعايير دولية في حين أنها غير قادرة على الوصول إلى إجماع داخلي على هذه المعايير وجعلها قانونا ملزما
آخر القرارات غير الملزمة في الداخل الأميركي أيضا هو خريطة طريق في مجلس الشيوخ الأميركي، تبناها رئيس الغالبية، السيناتور شاك شومر الديمقراطي عن ولاية نيويورك. هذه الخريطة هي عبارة عن وثيقة من 31 صفحة من الأولويات السياسية المدعومة من الحزبين داخل الكونغرس. هذه الوثيقة التي نشرت في الخامس عشر من شهر مايو/أيار ليست إلا عبارة عن خطة إنفاق جديدة، حيث وضعت خطة لإنفاق 32 مليار دولار على مدار السنوات الثلاث المقبلة. ولم تتطرق الوثيقة إلى ضرورة تمرير قانون داخلي أميركي من شأنه أن يقنن استخدام الذكاء الاصطناعي ويجبر الشركات التكنولوجية على الإفصاح عن كيفية حصولها على المعلومات المستخدمة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي. تشكل هذه الوثيقة إضافة جديدة الى وثائق أصدرتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وهي غير ملزمة، مما دفع المستشار التكنولوجي السابق في البيت الأبيض، سورش فينكات سبرامانيان، إلى التصريح على صفحته على موقع "أكس" بأن الاقتراح يبدو غير أصلي ومعاد تدويره إلى درجة أنه ربما كتب بواسطة روبوت ذكاء إصطناعي.
من غير المتوقع ان يمرر الكونغرس الأميركي أي قانون خاص بالذكاء الاصطناعي هذه السنة نظرا لكونه عام انتخابات وانشغال الحزبين بالتحضير لها، وعدم رغبتهما بخسارة دعم أي من الشركات التكنولوجية عند تمرير قانون كهذا. علاوة على ذلك، ليس هناك رؤية حقيقية للمشرعين الأميركيين بضرورة تقنين الذكاء الاصطناعي إذ يعتقدون أن هذا من شأنه عرقلة الإبداع. كذلك، فإن غياب سياسية واضحة من الكونغرس يضعف موقف واشنطن دوليا، خصوصا في سعيها الى تكوين تحالف يساهم في تقويض محاولات الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، الهيمنة على القطاع التكنولوجي.
لكن كيف يمكن لواشنطن فرض قيم ومعايير دولية في حين أنها غير قادرة على الوصول إلى إجماع داخلي على هذه المعايير وجعلها قانونا ملزما؟