لصوت أحمد قعبور خصوصية يعرفها هو بقدر ما يعرفها محبّو موسيقاه وأغنياته. كلمات مثل دافئ وحنون وشجيّ، لعلها كافية لوصف هذا الصوت. لكنه ليس الصوت فحسب، بل الأغنية برمتها، بألحانها وكلماتها أيضا، أي بمزاجها العام. أحمد قعبور، في كلّ انشغالاته الفنية، وحتى قبل السنوات الأخيرة التي شهدت مزيدا من البؤس، وفي التقدير الأقل، التعب، لمدينته ومسقط رأسه بيروت، كان بالنسبة إلى هذه المدينة بمثابة زمنها الضائع. أغنياته منذ ثمانينات القرن الماضي، هي سجل لهذا الفقدان، الذي لا يمكن أن يكون سواه، حتى لو لم تتوالَ على بيروت كل هذه الويلات. فالفقد هو في المقام الأول، فقد الطفولة، وسواء كان العالم الذي يرتسم إثر ذلك، مبهجا كما في معظم أغنياته عن بيروت، أو حزينا، كما في هذه الأغنيات نفسها وغيرها، مستلا من الماضي البعيد، أو من الحاضر القريب، فإنه عالم غائب. وكل عالم غائب، كما كلّ عالم محلوم به، متخيّل، بعيد المنال، شعريّ بالضرورة.
ينتمي أحمد قعبور إلى سلالة من المغنين العرب والعالميين الذين لا يكترثون كثيرا بالطرب. الطرب صنعة ومهارة وأدوات وإرث وتقاليد لا تعنيه، بالمعنى المباشر للكلمة. ما يعنيه، ببساطة، هو الجانب الطقوسي البسيط من الغناء. نغنّي لنستدعي شعورا بالفرح أو الحزن. لنقيم لهذا الشعور نصبا دائما في الزمن. الحماسة لم تكن يوما لعبة بيديه. حتى في أغنية شهيرة مثل "أناديكم"، الدعوة ليست دعوة حماسية قتالية. إنها في جوهرها نشيد مأساوي، نشيد من أناشيد الحداد، مرثيّة للمتروكين وحدهم، وهؤلاء يتجاوزون الفلسطيني المتروك في الأمس واليوم. في "أختي أميرة"، آخر أغنياته، نتعرّف إلى بطل، بالأحرى بطلة، من أبطال ذلك التخلّي وتلك الوحدة. إنها الأخت التي مرّ عليها الزمن، الأخت المضحية، التي أهملت نفسها في سبيل أخوتها، لتجد نفسها في النهاية وحيدة.
"أناديكم" في جوهرها نشيد من أناشيد الحداد، مرثيّة للمتروكين وحدهم، وهؤلاء يتجاوزون الفلسطيني المتروك في الأمس واليوم
أوافق مع مشاعر نساء كثيرات، خصوصا من غير المتزوجات، خيارا أو اضطرارا، ممن لم يرتحن لسماع هذه الأغنية. النبرة الرثائية الحزينة، وبقدر ما فيها من تعاطف ومحبّة، تضع أولئك النساء في موضع الضعف وتجعل منهن محض ضحايا. بصرف النظر عما يجعل المرأة لا تتزوج ولا تؤسّس أسرة، تنسى الأغنية أو لا يهمها أن هذا لا يجعل منها ضلعا مكسورا، ولا إنسانا أقلّ اكتمالا أو تحققا أو قوة أو حتى سعادة. في التجربة العربية على أقلّ تقدير، هناك ملايين النساء العربيات من ربّات المنازل المحطّمات اللواتي لم يعثرن على أثر للسعادة. وإذا كانت هناك "تضحية" الأخت في الأغنية، فهناك أيضا تضحية الأم والزوجة، التي تحرمها في كثير من الأحيان من تحقيق تطلعاتها، أو حتى أنوثتها. خلاصة القول، الزواج من عدمه، ليس مسألة يرثى لها، تمتدح أو تذمّ. مشكلة الأغنية، بالنسبة إلى كثيرات (وربما إلى كثيرين) أنها تستحضر بقوة، وإن لم تذكره صراحة، مفهوم "العنوسة" الأبشع ربما في القاموس الاجتماعي العربي.
لكن، علينا ألا ننسى أيضا ونحن نستمع إلى "أختي أميرة"، أنها قصة شخصية. أحمد قعبور هنا يشارك المستمعين تجربة ولا يعمّمها، يؤدّي تحية ويعبّر عن وفاء وامتنان، ولا أحسب أنه يقول رأيا أيديولوجيا أو يدلي ببيان حول أوضاع المرأة أو تجربتها. بعض الاستياء مفيد في كونه يساهم في النقاش حول اللغة التي نستخدمها في بيان أحوالنا ومشاعرنا، وبعضه بيان نسوي في حدّ ذاته، ولا ضرر في الحالين. ولعلّ من المفيد التذكير دوما بأن الشخصي حين يصبح في الفضاء العام، خاصة في عالم الأغنية، يغدو تمثيليا إلى حدّ كبير، ويحاسَب بوصفه تمثيليا. وكم توقفنا سابقا ونتوقف أمام عبارات وردت في أغنيات فيروز أو أم كلثوم أو سواهما، اعتبرناها تحطّ من شأن المرأة، أو تضعها في صورة منمّطة مجحفة، تنسى نضالات النساء للافتكاك من الهيمنة الذكورية طوال عقود وعقود. لكنْ، حتى هذا، ومع الأخذ في الحسبان العنصر التمثيلي العام في الفن، لا يلغي عنصر التجربة الفردية، والحكاية الفردية.
تجربة أحمد قعبور ليست فقط تجربة في الغناء والشعر، لكنها كذلك تجربة في السرد
أعود إلى تلك المدينة الدافئة التي اسمها صوت أحمد قعبور، لأقول إنه، وبصرف النظر عن درجات الإعجاب في نتاجه الممتد، والذي يرتفع هنا وقد ينخفض هناك، دون أن ينحدر إطلاقا إلى أقلّ من مستواه الرفيع والشفيف، فإن هذه التجربة الشديدة الخصوصية، ليست فقط تجربة في الغناء والشعر، لكنها كذلك تجربة في السرد. أحمد قعبور يسرد باستمرار حكاية ما، ربما جاء ذلك من تجربته المسرحية الثريّة أيضا، وفي "أختي أميرة" نجد ملمحا لذلك، وفي هذا المعنى، يتجاوز الغناء عنده أغراضه اللحظية إلى عالم أكثر ديمومة ورسوخا. إنه عالم من لا ينسون مشاعرهم، من يعيشون معها أو بجوارها باستمرار، ومن تعذبهم تلك المشاعر باستمرار، وما صُنعهم الفن، والخيارات والمسالك التي يتخذونها في هذا السبيل، سوى أحد تعبيرات الإخلاص لهذه العذابات.