إيتل عدنان الشاعرة المرتحلة بين الثقافات والاتجاهات

ترجمة فرنسية جديدة لمختارات من شعرها

Getty Images
Getty Images
إيتل عدنان عام 2015 في الاستديو الخاص بها في باريس

إيتل عدنان الشاعرة المرتحلة بين الثقافات والاتجاهات

وأخيرا أصدرت دار "غاليمار" الفرنسية (عن سلسلة "شِعر") التي تأسست في نهاية الستينات وضمت حتى الآن مئات الشعراء العالميين، مجموعة من قصائد الشاعرة اللبنانية الكبيرة إيتل عدنان (1925-2021) تتضمن مختارات من شعرها، واختارت منها القصائد الحرّة وتخلت عن قصائدها النثرية التي، في رأيي لا تقل أهمية عن موزونها. وقلت "أخيرا" لأشير إلى تردد هذه الدار في إصدار مجموعة لإيتل عدنان، من خلال بعض الضغوط التي مارسها عليها شعراء عرب جلهم مرشح لجائزة نوبل، خافوا أن تنافسهم، لأنهم يعرفون حجم شاعريتها وقيمتها، التي تفوق إذا ارتبطت بتاريخها النضالي شِعر هؤلاء.

لكن الغريب أن المقدمة غابت عن هذه المجموعة، وهذا ما يغيب تحليلا يحاول كاتبه تحليل النص من وجهته، ويقدم قراءة خاصة لأعمالها، والعذر الأقبح من ذنب الذي سبب الغياب، بالقوة، أنه ألغى المقدمة لإفساح المجال لأكبر عدد من نصوص الشاعرة، علما بأن عشرات الكتب الأخرى التي صدرت بمقدمات، هي أكبر حجما من قصائد إيتل عدنان.

بين الثقافات

وُلدت في بيروت عام 1925، من والد سوري- تركي (عثماني) وأُم يونانية. تربت أولا عند راهبات كاثوليكيات بالفرنسية في بيروت، وفي محيط عربي. ثم انتقلت إلى باريس ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1958 وتعلمت الإنكليزية وأجادتها من دون أن تهجر الفرنسية، وبعض قصائدها الأساسية صيغت بالفرنسية. وكتبت شعرا ونثرا في أميركا وجالت في العديد من البلدان والقارات، وجعلت هذه الكوسموبوليتية منها مغامرة في آرائها ومواقفها، وهذا التنوع الثقافي حالة شعرية، ونجد في كتاباتها كثيرا من التأثرات العربية والأوروبية والأميركية، لكنها تغلبت على هذه التأثرات، في شعرها ورسمها، امتصتها جميعا وصاغت لغتها الخاصة. بدأت في بيروت بالانفتاح على الشعر الفرنسي، بشعرائه مثل بودلير وفيرلين ورمبو ولوتريامون وفاليري، يضاف إلى ذلك الرومنطيقية الألمانية مع نوفاليس وهولدرلن وريلكه، وكذلك الشعر الروسي مع بوشكين، وقرأت التوراة والقرآن والشعراء العرب الكلاسيكيين والحداثيين، ليضاف إلى ذلك تَوقها إلى الشعراء الفلاسفة باعتبارها درست الفلسفة سنوات وكانت فيلسوفة صلبة ثم اكتشفت الشعر الأميركي مع أمثال ويتمان وديكنسون وثورو.

جالت في العديد من البلدان والقارات، وجعلت هذه الكوسموبوليتية منها مغامرة في آرائها ومواقفها

إن إعادة قراءة شِعرها المنظوم والنثري، تكشف تعمقها في أعمال المدارس الشعرية الأجنبية كالسوريالية والدادائية وقبلهما الرومنطيقية وصولا إلى موجة اللغة، كاتجاه مع فيليب سولرز ومجلته، إلا أنها جانبت الانخراط في نظريات جاهزة، وخصوصا ما يسمى "الفن للفن" (فاليري ولوتريامون ومالارميه)، أي رفضت مقولة شعراء البرج العاجي، والانزواء في فردية متقوقعة، أو الانعزالية، أو الوقوع في لغة الأنا المطلقة، أي أن شِعرها، إلى خصوصيته وإيقاعه، انفتح على العالم، والمجتمعات، والشعوب، وقضاياها.

بل اعتبرت أن هذا النوع من الشعر، أي الأنا، عدوها... ومن هنا تنوعها، وتركيزها على المسائل التي ترتبط بالثورات والانقلابات وطغيان الاستبداد، فكتبت عن فلسطين والقضية الجزائرية، وعن وطنها لبنان الممزق، بمعنى آخر اختارت الكتابة الملتزمة بكل عنفها وشفافيتها وقوتها، خصوصا قضية الحرية، كأنها طرقت بالتزامها، مجمل مسائل عصرها.

على الرغم من ذلك، فإنها لم تقع في الخطابية، وإن شاب بعض ما نشرته نبرة مباشرة، ونثرية أحيانا، لأنها كانت تتوجه إلى الناس، لا إلى النخبة، أي أنها خضعت لالتزاماتها النضالية الجماعية. وقد جمعت بين الشعر والرسم في أعمال طويلة وبصرية إلى حد كبير، حالت دون إدراج هذه القصائد في مجموعتها لطولها، وقد أدرجت لوحاتها في أكثر من 20 متحفا عالميا.

إنها شاعرة ترسم، ورسامة تنظم الشعر، ومن هذا الامتزاج، قدمت قصائد، مرسومة، ورسوما مكتوبة. (تذكرنا ببيكاسو، لكن شِعرها أهم من شِعر هذا الفنان الكبير الذي تأثر بالدادائية والسوريالية ومزج الرسم بالقصيدة). فإيتل عدنان شاعرة متوترة، تخرج جملها من جسمها، ومن أعصابها، متواترة ومتداخلة، بمعنى آخر كانت في هذه الناحية رومنطيقية، وحالمة، تطلع لوحاتها وكتاباتها كالبركان. بل إن علاقتها بالرومنطقية تظهر في إحساسها بالطبيعة، القمر والنجوم والغيوم والبحر والقرية، والمدينة، ولعل قصائد الحب الكثيرة الذاتية، تبدو فيها رثائية أحيانا مثل "البلاد تحت الدموع" و"نشيد الموتى" و"نشيد فلسطين وتل الزعتر"، ومسألة البيئة وإنصاف الحيوان.

نبرتان

من هنا يمكننا القول إن في شِعرها نبرتين غير منفصلتين، هما النصوص السياسية الملتزمة المعبأة بالقضايا الساخنة، في قصائد شعبية، نضالية، ثم قصائد الحب، وهي شفافة، صافية، صادقة، رقيقة، إلى الحبيب، وتشمل ما قدّمته إلى أصدقائها الشعراء منهم بيار باولو بازوليني وتوماس هاردي وإيف بونفوا، وهنري ميشو وإيف بونفوا وبيكاسو وبيار ريفردي...

الشاعرة اللبنانية إيتل عدنان (1925-2021)

صحيح أن إيتل عدنان اطلعت على مجمل التراث الشعري والكلاسيكي وتمكنت من صنع لغتها الخاصة، لكن إذا أمعنا في قراءتها نجدها استخدمت من السوريالية بلاغتها الخاصة، وتحديدا مخارجها المفاجئة في صورها، لعدم الوقوع في المباشرة، وخصوصا في قصائد الحب، وذلك من خلال جمعها بين متناقضات في صورها، كما فعل بول إيلوار، وأندره بريتون وفيردي وأراغون، وهذا اللقاء بدا أكثر ما بدا في قصائدها القصيرة، أو الطويلة ذات الجمل الخاطفة، والمضيئة. وكذلك لم تستطع إخفاء تأثرها بالرومنطيقية الكلاسيكية في مواضيع الطبيعة، لكنها تمكنت من عدم الذوبان في قواعدها ونظرياتها.

في شِعرها نبرتان غير منفصلتين، هما النصوص السياسية الملتزمة وقصائد الحب

وكذلك قصائدها السياسية، التي توحي بانفتاحها على شعراء كبار ملتزمين كنيرودا (الذي نقرأ عنده الحب والطبيعة والأمكنة)، والشعراء الإسبان والعرب: ويمكن ملاحظة تراكمية وبَوحية في هذه القصائد النزقة، مما يؤثر في بقية النص وحتى تشرذمه ومباشرته. وتكرر هذا الأمر في نصوصها الفلسفية، وهي التي قدمت أطروحتها للتخرج الجامعي عن بعض الفلاسفة الإغريق.

الواقع أن كتابها هذا وإن جاء متأخرا، يمنحها شيئا من أهميتها وعالميتها (ترجمت إلى نحو عشر لغات) لكنه لا يعوض عما نشرته وهو غزير من قصائد نثرية، مهمة تضارع في أهميتها قصائدها الحرة. فقد كانت أكثر حرية وجرأة في هذه القصائد النثرية من شِعرها الحر. وسبق أن ترجمت نحو عشرين قصيدة لها، غير موزونة في كتاب "مختارات من الشعر الفرنسي من 1900 إلى 1980"، والذي نفد في ثلاث طبعات وصدر أخيرا في طبعته الرابعة عن دار "الجمل" في بيروت، خصوصا وأنني كنت أقابلها باستمرار لوجود مكتب مجلة "المستقبل" في البناية التي تسكنها مع صديقتها، فعرفتها عن كثب، امرأة ودودة، حاسمة، قوية شفافة.

font change

مقالات ذات صلة