محمد المغنِّي لـ "المجلة": أحداث "برتقالة من يافا" مطابقة للواقعhttps://www.majalla.com/node/318466/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D9%86%D9%90%D9%91%D9%8A-%D9%84%D9%80-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A3%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB-%D8%A8%D8%B1%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D9%8A%D8%A7%D9%81%D8%A7-%D9%85%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D9%82%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9
في منتصف فبراير/شباط الماضي، نال فيلم "برتقالة من يافا"، للمخرج الفلسطيني الشاب محمد المغنّي، جائزة المهرجان الدولي "كليرمون فيران" للأفلام القصيرة، وهو أعرق وأهم مهرجان في العالم خاص بهذا النوع من الأفلام.
يحكي الفيلم قصة الشاب الفلسطيني محمد الذي يبحث عن سيارة أجرة تسمح له بعبور نقطة تفتيش إسرائيلية، للانضمام إلى والدته التي تنتظره على الجانب الآخر. يتمكن من إقناع سائق التاكسي فاروق، الذي تردّد في البداية لأن الشاب لا يحمل تصريح مرور وإنما بطاقة إقامة أوروبية فقط. لكن عند وصولهما إلى الحاجز، يكتشف فاروق أن محمد قد حاول بالفعل عبور الحدود عبر قلنديا دون جدوى، وهنا تبدأ المشاكل مع شرطة الحدود الإسرائيلية التي تعاملت معهما بقسوة مفرطة وغطرسة لا إنسانية. في اللقطة الأخيرة للفيلم، بعد محاولات فاشلة للعبور، يقتسم البطل الشاب حبة برتقال من يافا مع سائق سيارة الأجرة، في استعارة حزينة عن المصير المشترك للفلسطينيين كافة، سواء في غزة أو الضفة، في الداخل أو الشتات.
من غزة إلى بولندا
ولد محمد المغنِّي عام 1993 في غزة. بعدما درس الإخراج في مدرسة السينما في مدينة وودج في بولونيا، عاد إلى فلسطين ليحكي بلغة السينما قصة أبناء وطنه الذين يعيشون في ظل الاحتلال الإسرائيلي. كتب وأخرج أفلاما قصيرة كثيرة منها: منها فيلم "فلافلة" (Falafala) (2018)، وفيلم "أين الحمار" (Where’s the Donkey) (2018)، وفيلم "العملية" (Operation) (2018)، وفيلم "ماريا" (2015) وفيلم "حلوان"Halawan) (2012) )، كما حاز فيلمه الوثائقي "الشجاعية" (2015) العديد من الجوائز في مهرجانات سينمائية.
"المجلة" التقت المخرج وكاتب السيناريو الفلسطيني الشاب محمد المغنِّي، فكان هذا الحوار.
كمية القهر والعنف الصامت اللذين شعرت بهما جعلاني أروي هذه القصة في "برتقالة من يافا"
نبدأ من مسارك الأكاديمي والفني. كيف ومتى قرّرت اختيار السينما وسيلة للإبداع والتعبير؟
في عمر السادسة عشرة، كنت أعلم أنّني أريد صناعة الأفلام، وذلك بعدما شاهدت العديد من الأفلام، بما فيها الرسوم المتحركة حين كنت طفلا. ودائما ما كانت تلك القصص تثير مشاعري. أردت أن أكون راويا لحكايات فلسطينية من صميم حياتي اليومية التي عشتها في غزة. ثم ذهبت إلى بولندا للدراسة بعد الثانوية العامة لأقوم بإتمام درجتي البكالوريوس والماجستير من المعهد الوطني للسينما في وودج.
كيف تبلورت فكرة فيلم "برتقالة من يافا" للمرّة الأولى؟ هل هي قصة واقعية مستلهمة من تجربتك الشخصية (بحكم أن البطل لديه بطاقة إقامة بولندية)، أم هي من وحي تجربة شاب فلسطيني آخر خلال محاولته المرور من معبر إسرائيلي؟
حدثت هذه القصة معي بالفعل، لأن كمية القهر والعنف الصامت اللذين شعرت بهما جعلاني أروي هذه القصة. في البداية، عند كتابتي سيناريو الفيلم، اخترت اسما آخر للشخصية الرئيسة - التي هي شخصيتي - لكنني لم أشعر بإفراغ ما في ذاتي إلا حين غيَّرت الاسم ليصير محمد، وبقي هو اسم الشخصية الرئيسة منذ ذلك الحين.
رسائل ودروس
يرصد الفيلم إشكالية المرور من المعابر الحدودية بين فلسطين وإسرائيل، من خلال التركيز على قسوة الجنود الإسرائيليين وتعنتهم ومعاملتهم البيروقراطية المتعجرفة للمواطنين الفلسطينيين. ما الرسائل والدروس السياسية والإنسانية التي يمكن استخلاصها من مثل هذه المواقف؟
الدروس الإنسانية والسياسية يعرفها الجميع، ويمكن للأمم المتحدة تلخيصها في نقاط، لكن إسرائيل لا تحترم نقطة واحدة منها. ما وددت طرحه هو التجربة الشعورية التي يمرُّ بها الفلسطينيون على اختلاف هوياتهم، في تلك اللحظة، بسبب نظام الفصل العنصري الذي ينهجه الاحتلال الإسرائيلي، وتأثيره على حياتنا اليومية كفلسطينيين، بما فيها الحركة من منطقة "أ" إلى منطقة "ب"، والتي لم أرَ لها مثيلا في أي مكان بالعالم. إن كمية الظلم والاضطهاد التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، في كل مناحي الحياة، أمر قاس، ولا يمكن لنظام أن يفكر في القيام به إلا إذا بلغت درجات الشر الحدَّ الأقصى.
هل واجهتك مشاكل وصعوبات أثناء تصوير "برتقالة من يافا"، سواء عند اختيار طاقم التمثيل، أو التصوير في المعبر، وأيضا قبل ذلك، عند مفاوضة المنتجين في فرنسا وبولندا؟
صوَّرتُ الفيلم كاملا في رام الله في فلسطين، ومن أصعب الأمور التي واجهتنا أننا اضطررنا لبناء حاجز إسرائيلي كامل مطابق لحاجز حزما القريب من القدس، لتكون أحداث الفيلم مطابقة للواقع إلى أقصى حدّ ممكن. وأودُّ أن أذكر أن الفنان عامر أبو مطر من رام الله هو من بنى الحاجز في فترة وجيزة، وقد واجه صعوبات عدّة في ذلك. أما بالنسبة الى الصعوبات الأخرى خلال التصوير، فهي متعلقة بأمن فريق العمل، وهذا ما يحدث غالبا في معظم الإنتاجات السينمائية الفلسطينية. فكما تعلمون، معدّات التصوير كبيرة وثقيلة، والتنقل بها ونصبها يتطلبان وقتا وجهدا، وأحيانا كثيرة كان يجب علينا الانتهاء بأسرع وقت لأن إعادة مشهد معيَّن قد تشكل خطرا على حياة فريق العمل، ناهيك عن توفير المعدات السينمائية، حيث لم تكن متوفرة لنا كلّها، مما اضطرّنا إلى جلب معظم معدات التصوير من بولندا، ورغم ذلك تمَّ نزعها من الطاقم البولندي وحجزها في مطار بن غوريون لمدة أسبوعين.
رسالتي الوحيدة التي اخترت من أجلها ممارسة عملي كمخرج سينمائي هي إنهاء الاحتلال
تجربتك في عالم الإخراج انشغلت منذ البداية بالصراع مع إسرائيل، إذ تناول العديد من أفلامك في السنوات الأخيرة قضايا وأوضاعا صعبة يعيشها المواطن الفلسطيني تحت الاحتلال. هل قدر المخرج الفلسطيني الشاب هو الوفاء لقضية شعبه أولا قبل كل شيء، أم في إمكانه استكشاف آفاق أخرى لاحقا؟
عندما أتناول في أفلامي موضوع فلسطين فإنني أتناول المواضيع الاجتماعية، مثل الحب والأمل، وكل مناحي الحياة الفلسطينية، رغم أنها تحت الاحتلال الإسرائيلي، لأنك إذا سألت أي فلسطيني عما ينغّص حياته اليومية فسيجيب بأنه الوضع السياسي المرتبط بكل شيء، وذلك لأنه غير قادر على تخطيط أي مشروع، أو حفل، أو وجبة غداء، أو حتى رحلة إلى شاطئ البحر، في ظل الوضع الحالي والحرب الضارية على غزة، دون أن يكون مدركا لما سيحدث له خلال تنفيذ هذه الخطة. يجب على الفنان أن يملك رسالة، ورسالتي الوحيدة التي اخترت من أجلها ممارسة عملي كمخرج سينمائي هي إنهاء الاحتلال، وسيظل هذا شغلي الشاغل إلى أن نعيش في دولة فلسطينية مستقلة.
نقلة نوعية
قبل أكثر من شهر، حصد "برتقالة من يافا"، 2023، الجائزة الكبرى لمهرجان كليرمون فيرون للأفلام القصيرة بفرنسا، وهو أكبر وأهم مهرجان في العالم بالنسبة لهذه الفئة من الأفلام. كيف استقبلت هذا التتويج السينمائي المهم، وهل ترى أن هذا الفيلم بالذات يشكل نقلة نوعية في مسارك الفني؟
فيلم "برتقالة من يافا" كان أوّل مشروع بالنسبة لي بعد تخرجي من معهد السينما في وودج، بولندا. كانت مرحلة كتابة السيناريو، التي ركّزت عليها بشكل دقيق، نقلة نوعية في مسار كتاباتي للأفلام، وما عزّز هذا الشعور هو حصولي على جائزة مهرجان "كليرمون-فيران". أنا ممتن جدا لإعجاب الجمهور بالفيلم، حيث أبدى كثيرون إعجابهم، ليس فقط بسيناريو الفيلم وإخراجه، بل أيضا بتمثيل الشخصيات الرئيسة، وهما الأستاذ القدير كامل الباشا من القدس والشاب الموهوب سامر بشارات من مدينة الناصرة. ولأنني أقدّر هذا الثناء كثيرا، أعلم أن لدينا مواهب كبيرة في فلسطين، كالفنان عامر أبو مطر الذي بنى الحاجز كاملا في فترة وجيزة، وهو حاجز مطابق لحاجز حزما الحقيقي، مما جعل الكثير من المشاهدين يظنون أننا صوّرنا الفيلم على حاجز حقيقي، وهو أمر مستحيل.
كيف تلقى النقاد أعمالك السينمائية، خلال عروضها المختلفة في المهرجانات العربية والعالمية، وهل ثمة فرق في التلقي بين الجمهور العربي (المساند للقضية الفلسطينية على الدوام) وبين الجمهور غير العربي الذي يستكشف من خلال أعمالك، ربما للمرة الأولى، عددا من الوقائع والحقائق التي يتعمد الإعلام الدولي إغفالها أو تجاهلها؟
ما لمسته حتى اللحظة هو أن التلقي، سواء العربي أو غير العربي، كان إيجابيا. هنالك بعض التفاصيل اليومية التي قد يكون غافلا عنها حتى الجمهور العربي، وهنا تكمن قوة السينما، لأنها تجعل المُشاهد يعيش تجربة شخصيات الفيلم بتفاصيلها للحظات، وتكون هذه التجربة نوعية أكثر ربما بالنسبة للمشاهد غير العربي، وخصوصا غير الملمّ بالوضع الفلسطيني، حيث يبدو له هذا العالم جديدا، مما يثير فضوله ليبحث ويعرف أكثر عن فلسطين وحياة الفلسطينيين.
ما يحدث في غزة بشكل يومي يعرضنا لصدمات متتالية وأحداث لا يمكن لروايات أو أفلام أن تصفها
خلال مشاركتك بمسابقة سلطان بيلي الدولية للأفلام القصيرة بمدينة إسطنبول التركية، صرحت بأن العديد من العاملين في الوسط الفني التزموا الصمت إزاء الأحداث في فلسطين، خوفا من تضرر مكانتهم الفنية. كيف تنظر إلى تفاعل صناع السينما العالميين مع ما يحدث في غزة؟ هل هناك أمل في أن تستيقظ الضمائر يوما ما لتدفع البعض لإنجاز أفلام تنصف الشعب الفلسطيني وتفضح التزييف الإسرائيلي للتاريخ؟
بالتأكيد، هنالك العديد من الفنانين تكلموا عما يحدث وطالبوا بوقف إطلاق النار، ولكن العديد منهم التزموا الصمت، وذلك خوفا من خسارة مكانتهم للأسف. ما أود قوله إن الفنان بالنسبة إليّ هو صاحب رسالة، وإذا لم تصحُ ضمائرهم بعد جرائم الإبادة التي تحدث الآن في غزة، فمتى ستصحو؟ وكيف علينا أن نصدق مواقفهم "النبيلة" بعد اليوم، وما يدّعونه في خصوص قضايا أخرى في هذا العالم؟ إن صمتهم سوف يجعلني دائما أتذكر هذا النفاق.
أخيرا، هل تحضّر لأفلام قصيرة جديدة، خلال هذه الفترة؟ ألا تفكّر في خوض مغامرة الفيلم الروائي الطويل، مثلا؟
أعمل حاليا على أوّل فيلم وثائقي طويل بعنوان" ابن الشوارع"، يتناول حياة مراهق فلسطيني من مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان، تحاول عائلته الحصول على أوراق ثبوتية لكي تمنحه حرية التنقل والتعليم في بيروت. قمت بتصوير الفيلم على مدار أربع سنوات وسيتم عرضه نهاية هذا العام. أريد العمل أكثر على الأفلام الطويلة، وأتمنى أيضا أن تتضح فكرة الفيلم الروائي الطويل الذي أحلم بإخراجه، رغم أن ما يحدث في غزة بشكل يومي يُعرضنا لصدمات متتالية وأحداث لا يمكن لروايات أو أفلام أن تصفها، لذلك فالواقع أصعب بكثير من أي شيء سأقوم بكتابته، لكن من واجبي أيضا كفنان فلسطيني أن أطرح قصصنا الفلسطينية.