الكاتبة التركية دفني سومان لـ"المجلة": الكاتبات لا يتمتعن برفاهية الكتابة مثل الذكور

lشغوفة بإسطنبول وبإعادة إحياء تاريخها المنسي

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

الكاتبة التركية دفني سومان لـ"المجلة": الكاتبات لا يتمتعن برفاهية الكتابة مثل الذكور

ولدت الكاتبة التركية دفني سومان في إسطنبول، ونشأت في جزيرة برينكيبو. بدأ حبها للأدب في سن مبكرة على الرغم من عدم طموحها في البداية بأن تصبح مؤلفة، إلا أنها قرّرت أن تدرس علم الاجتماع. لاقت روايتها الأولى، "الغابة الزرقاء"، صدى كبيرا لدى القراء في تركيا. تستكشف كتاباتها الزوايا المظلمة للنفس البشرية من خلال طرح موضوعات الهوية والعلاقات الأسرية والعاطفية، كما تحاول طرح المسكوت عنه في التاريخ التركي/العثماني. صدرت لها روايات عدة مثل "الدائرة" و"الأرض المفقودة" وترجمت أعمالها إلى لغات عدة، من بينها الإنكليزية والإيطالية واليونانية والمالايالامية والنروجية. وتعد روايتها "صمت شهرزاد" سبب شهرتها عالميا كونها أولى روايتها المترجمة الى الإنكليزية، وهي رواية تاريخية تدور أحداثها حول تدمير مدينة سميرنا التاريخية. هنا حوار "المجلة" معها.

جردة حساب

  • في روايتك "الدائرة"، تتطرق أحداث حياة الراوي البالغ من العمر 75 عاما إلى تدمير إسطنبول القديمة، بدءا من ظهور كوفيد-19 وعودة إلى خمسينات القرن الماضي. هل يمكنك إخبارنا المزيد عن هذه الرواية المتعدّدة الأبعاد التي تناقشين من خلالها الهوية الثقافية والخسارة؟

أردت أن تكون "الدائرة" بمثابة جردة حسابات الشخصية، وطريقة لمشاهدة مرور الزمن. الراوي السيد بيريكليس، وهو كبير في السن ولكنه شاب القلب، يحتفظ بسجل لماضيه، لكنه يخبرنا أيضا عن زمنه الحالي، الأسابيع الأولى من تفشي وباء كوفيد-19. أثناء فترة الحجر، يكوّن صداقات مع جيرانه، بل ويقع في حب جارة له. يتحدون جميعا لمحاربة عملية تطوير عقاري في حيهم، ومحاولة إنقاذ المبنى السكني الجميل الذي شيّد في عام 1922.

كان طرد اليونانيين في 1964 هو المسمار الأخير في نعش التركيبة السكانية العالمية الفريدة لإسطنبول

أول ما لفت انتباهي عندما بدأت بتدوين الملاحظات لـكتابة الرواية، هو طرد اليونانيين من إسطنبول في عام 1964. كانت الدولة القومية التركية في مهمة لطرد اليونانيين منذ البداية، وكانت المحاولة الأخيرة في عام 1964. كانت عملية مؤلمة حقا. وقد رُحّل الذين كانوا يحملون جوازات سفر يونانية من إسطنبول، مع عائلاتهم وأقاربهم الذين يحملون الجنسية التركية. كان هذا هو المسمار الأخير في نعش التركيبة السكانية العالمية الفريدة لإسطنبول. وفي غضون 48 ساعة فقط في عام 1964، فقدت المدينة 30 ألفا من سكانها اليونانيين.

كان فقدان مثل هذا المجتمع النابض بالحياة أمرا مأسويا، لكنه على صعيد آخر، قدم لي الفرصة المثالية لكتابة رواية عن هذه الخسارة. أمر لا يصدق أن نكتشف أنه رغم مرور أكثر من 50 عاما، لا يزال في إمكاننا الشعور بشبح حياة عاشها اليونانيون ذات يوم في بعض أحياء إسطنبول. المباني المهجورة، والأزقة الفارغة، والحدائق الحزينة المزروعة بالأعشاب، والكنائس التي لا يرتادها أحد أيام الآحاد. إنها نظرة رائعة لما كانت عليه الحياة بالنسبة إلى اليونانيين المسنين الوحيدين الذين بقوا في المدينة. أسعدني أن أتمكن من الكشف عما يحدث في هذه الأحياء منذ عقود.

لا يمكن فهم عملية تجديد إسطنبول دون النظر إلى المحاولات المتعمدة "لتطهير سكانها من الأقليات غير المسلمة". أقيم هذا المشروع كوسيلة لنقل رأس المال من الطبقة البورجوازية اليونانية إلى الطبقة الرأسمالية التركية الناشئة. وبعد مرور ستين عاما، نلاحظ ظهور رأسمالية الشركات الممولة عالميا المحيطة بإسطنبول والتي تمحو كل آثار الماضي المتعدد الأديان والثقافات.

شهرزاد

  • تقدم روايتك "صمت شهرزاد" رؤية متعددة الأوجه لحياة الناس في الإمبراطورية العثمانية، والتي تشمل مختلف الطبقات الاجتماعية. كيف قمت بالبحث والتقاط الفروق الدقيقة في الحياة اليومية خلال تلك الحقبة؟ وأيضا لماذا اخترت "صمت شهرزاد" عنوانا لكتابك؟

أمضيت عامين في البحث من أجل كتابة "صمت شهرزاد". عرفت كل تفاصيل الحياة في مدينة سميرنا التاريخية بين عامي 1905 و1922 وهي الفترة الزمنية التي تدور خلالها أحداث الرواية. كنت محظوظة لأنني وجدت الكثير من المواد الأرشيفية. كنت أعيش في الولايات المتحدة آنذاك. قرأت صحف ذلك العصر، وتصفحت أيضا المجلات النسائية، وجمعت البطاقات البريدية والصور، وقرأت رسائل ومذكرات اليونانيين والأتراك والمشرقيين الذين عاشوا في سميرنا في ذلك الوقت. كما قرأت كل كتاب متوفر عن المدينة القديمة. جمعت خرائط المدينة وتعرفت الى أسماء الشوارع والساحات. حتى أنني تمكنت من تحديد مواقع بعض الكنائس والمدارس المفقودة منذ فترة طويلة. عثرت أيضا على عناوين الحانات والفنادق والمتاجر والأسواق. كما أن هناك قدرا كبيرا من الشهادات التاريخية الشفاهية، وهي رائعة حقا. كان الكثير منهم أطفالا في ذلك الوقت، وقد رووا لاحقا قصصهم عن حياتهم في سميرنا، قبل حريق المدينة العظيم وبعده. عرفت أن تدمير المدينة المتعددة اللغات والأعراق هو أحد الموضوعات الحساسة في تركيا. ولا يعترف التاريخ الرسمي التركي بالخسارة الكبيرة التي حدثت في سبتمبر/أيلول 1922 عندما تراجعت القوات اليونانية ودخل الجيش التركي إلى المدينة. وحقيقة أن أكثر من نصف سكان المدينة كانوا من اليونانيين والأرمن والمشرقيين مُحيت عمدا من الذاكرة.

 لا يمكن فهم عملية تجديد إسطنبول دون النظر إلى المحاولات المتعمدة "لتطهير سكانها من الأقليات غير المسلمة".

لكي أروي هذه الحكاية المأسوية، اخترت أن تكون شهرزاد صامتة. المرأة التي أُسكتت أو ربما اختارت الصمت من أجل البقاء، تحكي لنا بهدوء قصة "الجنة المفقودة"، قصة تدمير مدينتها. وكما هو معروف، إذا توقفت شهرزاد عن رواية القصص، فسوف تُقتل. إذن، ماذا تعني شهرزاد الصامتة؟ يمكن تفسير ذلك على أنه جزء من الذاكرة لم يعد من الممكن الوصول إليه، أو ربما على أنه جزء من التاريخ يحتضر قبل أن يُحظر الحديث عنه. وبدلا من ذلك، يمكن أن ينظر إليها على أنها محاولة لتسليط الضوء على العواقب المحتملة لـ"الأسرار العائلية" لأي دولة إذا لم تواجه وتناقش علانية.

القصة القصيرة

  • "الأرض المفقودة" عنوان مجموعتك القصصية التي تعدّ الذكريات أهم موضوعاتها. هل يمكنك أن تخبريننا المزيد عن هذا الكتاب؟

بعد كتابة أربع روايات، أردت أن أتحدّى نفسي وأجرب كتابة القصص القصيرة. بالنسبة إليّ، كتابة الروايات أسهل من القصص القصيرة. تجد الروايات قراءها، وهي طويلة بما يكفي ليتمكن القراء من بناء علاقة مع الشخصيات والحبكة. أما القصص القصيرة فهي شكل أدبي أدقّ. عليك قول ما تريدين قوله بأقل عدد من الجمل، ويجب أن تكون موجزة ومكثفة. هكذا بدأت كتابة مجموعة "الأرض المفقودة". العديد من القصص في هذا الكتاب ألهمتني في ما بعد كتابة رواية "الدائرة". يمكن القارئ العثور على معظم شخصيات الرواية في قصصي القصيرة. الذاكرة والأقليات وإسطنبول القديمة وسميرنا والتاريخ وأسرار الأسرة هي مرة أخرى موضوعاتي الرئيسة في هذه المجموعة. قصة واحدة تحمل عنوان "اسم العائلة" مفضلة لديّ، كونها مستوحاة من عائلتي. كتبتها في غضون ساعات قليلة في غرفة الجلوس بفرحة غامرة. 

facebook
الكاتبة التركية دفني سومان

  •  عند قراءة أعمالك لا يمكن إغفال شغفك بمدينة إسطنبول القديمة ورغبتك الدائمة في البحث في تاريخها. بدا لي أنك تشتاقين إلى مكان لم تعيشي فيه. هل تتفقين معي؟

أتفق تماما مع ذلك. عندما كنت في المدرسة الثانوية، كنت أتغيب عن المدرسة وأذهب إلى شارع بيوغلو بحثا عن شيء قديم. في ذلك الوقت لم أكن أعرف ما الذي كنت أبحث عنه، لكن لم يكن من قبيل المصادفة أن تسوقني قدماي إلى بيوغلو. كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي، ولم تعد منطقة بيوغلو حيا متعدّد الأعراق كما كانت عليه في النصف الأول من القرن العشرين. مع ذلك، تمكنت من تتبع آثار الحياة المتعددة المفقودة هناك منذ زمن طويل أثناء دخولي إلى الأزقة والأبنية وخروجي منها. المباني تربطنا بالزمن. الذاكرة مرتبطة بالفضاء. في العام الذي أنهيت فيه دراستي الثانوية، هُدمت مدرستي، وبُني مكانها مركز تسوق مكون من سبعة طوابق. لم أتمكن أنا أو أي من زملائي من دخول مركز التسوق هذا إلا بعد سنوات. مع تدمير مدرستنا، دمّرت ذكرياتنا، والوقت الذي أمضيناه معا، وشبابنا. إنه لأمر محزن للغاية أن نرى كل هذه المباني الجميلة في إسطنبول تُهدم وتُستبدل بمجمعات سكنية قبيحة. يبدو أننا نفقد الاتصال بماضينا. وفي طبيعة الحال، هناك أسباب اقتصادية وسياسية لذلك، لكننا جميعا مرتبطون بماضينا. عندما ننفصل عن ماضينا، يمكن أن يؤدي ذلك إلى خلل نفسي في المجتمع بأسره. مجتمع منقسم ليس له ماض يمكن الارتباط به... أنا - مثل بروست - أسعى للعثور على الوقت الضائع، على أمل إعادة اكتشاف نفسي.

بعد المطر

  • "بعد المطر"، رواية تناقش تغير المناخ والأوبئة والتلوث والحرب في عالمنا. حدثينا عن مراحل كتابة هذه الرواية؟

بدأ كل شيء بعد ظهر أحد الأيام في بويوكادا أو برينكيبو، وهي جزيرة صغيرة جميلة تقع قبالة الساحل الجنوبي الشرقي لإسطنبول حيث نشأت. كنت اتنزه في أرجاء تلك الجزيرة مع مجموعة من طلابي من ورشة الكتابة الإبداعية. مررنا بدار الأيتام اليونانية القديمة، وهي عبارة عن مبنى خشبي ضخم (الأكبر في أوروبا) مهجور منذ الستينات. كان يقال إن هذا البيت مسكون بالأشباح، لذلك كنت أخاف منه منذ الطفولة. يقع البيت على تلال الجزيرة بمفرده، ولا تزال أشباح العديد من الأيتام تتجول في الداخل. أخبرت أحد طلابي أنني أرغب في كتابة قصة قصيرة تدور أحداثها داخل المبنى. فأخبرني أنه خلال الإبادة الجماعية للأرمن في عام 1915، أرسل العديد من الأطفال الأرمن الأيتام إلى هنا من المقاطعات الشرقية للإمبراطورية العثمانية. سألني إذا كانت هذه المعلومة توفر لي خلفية جيدة لقصتي. في تلك اللحظة، أدركت أنني لا أريد أن أكتب كتابا آخر تدور أحداثه في الماضي. بعد "صمت شهرزاد" و"على مائدة الإفطار"، تعبت من البحث التاريخي المكثف. ثم ظننت أنه ربما يكون المستقبل بمثابة عصر التحرر بالنسبة إليّ. ففي نهاية المطاف، ليس هناك أي خطر على الإطلاق من ارتكاب خطأ تاريخي. لذلك بدأت كتابة "بعد المطر"، عن الصداقة والخسارة. ولأن أحداثها تجري عام 2100، كان العالم الذي تخيلته عالما مكثفا. أثناء قراءتي عن تغير المناخ وكل الأضرار التي يتسبب بها البشر لهذا الكوكب، قرّرت  أن أكتب النهاية الأكثر "تفاؤلا": انقراض الجنس البشري عن وجه الأرض بسبب فيروس يهاجم الجهاز العصبي. حاولت في أجزاء كثيرة من الرواية أن أبيّن كيف تجدّد الطبيعة الحياة مرة أخرى كلما انخفض عدد السكان على الأرض. أثناء كتابة الرواية، حدثت جائحة كوفيد-19 لذلك اعتقد الكثير من الناس أنني استلهمت أحداث الرواية من الجائحة. وهذا ليس صحيحا على الإطلاق. كان مصدر إلهامي الأكبر رواية مارغريت أتوود الحزينة، "أوريكس وكريك".

  علينا أن ننهي أعمال المنزل، وبعد ذلك، إذا كنا محظوظات، يمكننا أن نجد القليل من الوقت للكتابة

  • إلى أي مدى ساهمت دراستك علم الاجتماع في تشريح المجتمع التركي ورصد التغيرات الاجتماعية فيه؟

لطالما فُتنت بالعلاقة بين ذاكرة المكان والتاريخ. دفعني اهتمامي بكيفية بناء المجتمعات لهويتها إلى اختيار علم الاجتماع كتخصص في الجامعة، وأكملت دراستي في القسم نفسه وعملت مساعد مدرس. تعلمت على يد أساتذة مرموقين، أشياء كثيرة: كيفية إجراء البحث، والابتعاد عما هو شخصي (المجتمع أو الأسرة أو الذات) والتفكير الموضوعي والبحث من خلال ديناميكيات عدة (العلاقات والأفكار). كل هذه السمات ساهمت في ما بعد بشكل كبير في نجاحي عندما بدأت بكتابة الروايات والقصص القصيرة.

  • مَن هم كتّابك المفضلون، وهل لديك طقوس محدّدة في الكتابة؟

الكاتبات لا يتمتعن برفاهية الطقوس مثل العديد من نظرائهن الذكور. علينا أن ننهي أعمال المنزل، وبعد ذلك، إذا كنا محظوظات، يمكننا أن نجد القليل من الوقت للكتابة في غرفة خاصة بنا. أعتقد أننا يجب ان نحظى بذلك. أنا أكتب في كل وقت يتاح لي. أكتب كلما استطعت، في المقاهي، في المنزل، في الطائرات أثناء السفر.

بالنسبة إلى كتابي المفضلين، فإن الكاتبة الهندية أرونداتي روي مصدر إلهام بالنسبة إليّ، وكذلك سلمان رشدي وأورهان باموك وفيرجينيا وولف وأورسولا ك. لو جوين، وغريس بالي، ومارغريت أتوود، وشيهان كاروناتيلاكا، وجيفري يوجينيدس، وإيلينا فيرانتي.

  • هل تكتبين رواية جديدة؟

كنت أحاول كتابة رواية جديدة منذ فترة. لست متأكدة مما إذا كنت سأتمكن من إنهائها، ولكن هكذا أبدأ كل عمل عادة. يتعلق الأمر بالذاكرة مرة أخرى، وبالصداقة أيضا.

font change

مقالات ذات صلة