الانتخابات البريطانية... قرار إجرائها متسرع لكن لا مفر منه

فوز "العمال" متوقع لكن لا يزال عليه أن يرضي الجمهور

 أ ف ب
أ ف ب
رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك أثناء تجمع لـ"حزب المحافظين" في أمرشام في 27 مايو

الانتخابات البريطانية... قرار إجرائها متسرع لكن لا مفر منه

لعل في قرار رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك تحديد موعد إجراء الانتخابات العامة في الرابع من يوليو/تموز، مخاطرة سياسية جريئة في ظل واقع "حزب المحافظين" المتراجع بشكل كبير في استطلاعات الرأي، حتى إن بعض النقاد وصفوها بأنها قد تكون كارثية بالنسبة لحزبه.

منذ إلغاء قانون البرلمانات محددة المدة، صار قرار موعد الدعوة لإجراء الانتخابات محصورا في يد رئيس الوزراء وحده، ما يعني أن سوناك قد اتخذ القرار بمفرده، أو ربما بمشاركة زوجته أكشاتا.

من المؤكد أن القرار لم يحظ بشعبية كبيرة بين كثير من كبار وزراء سوناك، حيث يواجه الكثير منهم خطر خسارة مقاعدهم. ومن بين أولئك الذين قيل إنهم عارضوا قرار الذهاب إلى صناديق الاقتراع كان مستشار سوناك الانتخابي إسحق ليفيدو، الذي قاد حملة "حزب المحافظين" إلى أعلى مستوياتها الانتخابية عام 2019.

ووفقا لمصادر مطلعة من داخل مقر رئيس الوزراء في "داونينغ ستريت"، كان ليفيدو قد نصح رئيس الوزراء بالانتظار حتى وقت لاحق من هذا العام، وذلك بشكل أساسي كي يمنح مسؤولي الحزب الفرصة للتحضير بصورة صحيحة لما قد يكون حملة مضنية. وقيل أيضا إن كبار الوزراء، مثل وزير الدفاع غرانت شابس ووزير الخارجية ديفيد كاميرون، كان لديهم بعض الشكوك. ولكن عندما عقد سوناك اجتماعا طارئا لمجلس الوزراء لمناقشة هذه القضية، كان قد تقيد بالفعل بالمتطلب الدستوري المتمثل في مطالبة الملك تشارلز الثالث بحل البرلمان، ما يعني أن حجر النرد كان قد ألقي بالفعل قبل أن يتمكن وزراء الحكومة الآخرون من الإدلاء بأقوالهم.

والنتيجة أن المملكة المتحدة انغمست الآن في حملة انتخابية أخرى، حيث يتوقع معظم الخبراء أن يخرج "حزب العمال" المعارض منتصرا بعد حكم المحافظين الذي استمر أربعة عشر عاما على التوالي.

القرار لم يحظ بشعبية كبيرة بين كثير من كبار وزراء سوناك، حيث يواجه الكثير منهم خطر خسارة مقاعدهم

بعد الخطوة غير المحسوبة في إعلان رئيس الوزراء عن إجراء انتخابات عامة في الرابع من يوليو، لم يضيع زعيم "حزب العمال" كير ستارمر أي وقت، حيث سارع لإلقاء أول خطاب رئيس له في الحملة الانتخابية يوم 27 مايو/أيار.
وعلى الرغم من أن فوز "حزب العمال" في الانتخابات العامة هذا العام أمر متوقع بشكل كبير، لكن لا زال عليه أن يسعى لنيل رضا جمهور الناخبين الذي قد يكون غاضبا من المحافظين، لكنه ما زال غير مقتنع بعد بجاذبية ستارمر البديلة.
لقد جاء إعلان سوناك مفاجأة للكثيرين، ومن بينهم معظم كبار الشخصيات في حزبه– كان من المتوقع إلى حد بعيد أن تجرى الانتخابات في الخريف– وعبروا صراحة أنهم يفضلون إجراءها في موعد لاحق.
أولئك الذين تقدموا بهذه الحجة، بمن فيهم نائب زعيم "حزب المحافظين" أوليفر دودن، شعروا بأن الأمور قد لا تتحسن كثيرا وأن الرغبة المتصورة للناخبين في أنهم سيدلون برأيهم قريبا قد تؤدي إلى المخاطرة بجعل أي هزيمة للمحافظين أسوأ إذا جرى تأجيل الانتخابات.
يصف فريزر نيلسون، محرر مجلة "كونسرفاتيف سبيكتاتور" ( Conservative Spectator) ذو الصلات القوية، كيف جمع سوناك عددا قليلا من أعضاء مجلس الوزراء أولا لينقل لهم الأخبار الأسبوع الماضي: "وأبلغهم بأنه كان قد ذهب للتو لرؤية الملك سعيا إلى حل البرلمان (تقليديا، ينجز هذا الجزء في النهاية)، لذلك كان يعرض أمرا واقعا. كانت هذه مناقشة ذات نهاية مسدودة: سيكون من غير المجدي محاولة إقناعه بالعدول عن الأمر. ومع ذلك قال له غرانت شابس، وزير الدفاع، إن هذا هو الوقت الخطأ لإجراء الانتخابات. أما ديفيد كاميرون، الذي استُدعي من أعماله في الخارج لحضور هذا الاجتماع، فقد قال إن هذا كان (جريئا) وهو ما يعني (الجنون) في لغة وزراء الغرب".
ويبدو أن نقطتين رئيستين قد برزتا من هذا الاجتماع. الأولى هي أن رئيس الوزراء لا يعتقد حقا أن الأمور ستتحسن بالنسبة للحزب خلال الصيف، وبالتالي فهو لا يرى أية فائدة من الانتظار. على سبيل المثال، من المتوقع أن ترتفع قوائم انتظار هيئة الخدمات الصحية الوطنية لمدة شهرين على الأقل، وبالتالي فقد انتهك أحد التعهدات الخمسة التي قطعها عندما دخل "داونينغ ستريت" لأول مرة حول تحسين واقع الخدمات العامة المتعثرة في بريطانيا.
كما أن وضع قوارب الهجرة غير الشرعية الصغيرة يزداد سوءا أيضا، وهو أحد الأمور الرئيسة الأخرى التي تعهد سوناك بحلها.

رويترز
زعيم "حزب العمال" البريطاني المعارض كير ستارمر يلقي خطابه الانتخابي الأول في مهرجان للحزب في لانسنغ في 27 مايو

كما علم الوزراء أن الانتخابات ستُجرى وكأنها حملة رئاسية أميركية، حيث يتنافس قادة الحزب ضد بعضهم بعضا، وليس الأحزاب، وهو القرار الذي اتخذ لمواجهة معدلات تأييد سوناك، التي تُعَد من بين الأسوأ في تاريخ ما بعد الحرب.
لكن ومن ناحية أخرى، فقد انخفض التضخم، ويبدو أن الصورة الاقتصادية الأوسع تبدو أكثر إشراقا أيضا. بالإضافة إلى خطة الحكومة لإرسال بعض طالبي اللجوء إلى رواندا. لم يحدث ذلك بعد، ولكن يبدو أن الرحلات الجوية قد تكون وشيكة، حتى إنها ربما تبدأ خلال الحملة الانتخابية، الأمر الذي قد يحقق دفعة انتخابية لـ"المحافظين". وكما قال المحرر السياسي لـ"هيئة الإذاعة البريطانية" كريس ماسون عندما سُئل عن توقيت الانتخابات: "بعبارة أخرى، أجروها الآن وإلا قد يزداد الأمر سوءا".  
يشير متتبع استطلاعات صحيفة "التايمز" الذي يجمع أرقاما من الكثير من منظمي الاستطلاعات، إلى أن "حزب المحافظين" متأخر بفارق 21 نقطة عن "حزب العمال". لم يسبق لأي حزب أن قلص مثل هذا الفارق في التصويت خلال هذا الوقت القصير قبل البدء في الانتخابات. يحظى "حزب العمال" بالفارق نفسه الذي حققه في المرحلة نفسها التي قادت إلى النصر الساحق عام 1997 عندما فاز رئيس الوزراء العمالي السابق توني بلير بأغلبية ساحقة.
وقال تايم بيل، بروفيسور في السياسة بجامعة كوين ماري في لندن: "يمكننا أن نؤكد إلى حد كبير، في الوقت الحالي على أي حال، أن (حزب المحافظين) يواجه مشكلة كبيرة بالفعل". وفي الوقت نفسه يعتقد البروفيسور كولين رالينغز الذي كان يقدم تحليلات لاستطلاعات الرأي منذ عقود، أن الناخبين سوف ينصرفون بعيدا عن الأحزاب الأخرى مثل "حزب الإصلاح" اليميني المتطرف، قائلا: "شكوكي أنه وكما هو معتاد في الانتخابات البريطانية بسبب نظامنا الانتخابي، عند اللحظات الحرجة للحملة، فإن السؤال: من تريد أن يدير البلاد؟ هو الذي سيدفع الناس إلى معسكرين (حزب المحافظين)، و(حزب العمال)". وهو يعتقد أن معدلات استطلاعات الرأي الحالية لـ"حزب المحافظين" ستشهد تحسنا لهذا السبب.
ويقول: "أول شيء ينبغي على المحافظين فعله هو خسارة أغلبيتهم. يحدث ذلك ضمن تقلبات صغيرة نسبيا". وسوف يساعد الديمقراطيون الليبراليون، بسعيهم وراء مقاعد المحافظين المحتملة مثل شلتنهام ومعاقل المحافظين السابقة الأخرى في جنوب غربي لندن.

المرحلة التالية هي جعل "حزب العمال" الحزب الأكبر، الأمر الذي يتطلب فوز "حزب العمال" بالمقاعد الخلفية التي خسرها مؤخرا... "الأماكن الأولى التي تبدأ في النظر إليها هي المقاعد التي يشغلها المحافظون بفارق ضئيل، أو تلك الموجودة في الجدار الأحمر (الذي يمثل مناطق التصويت التقليدية لحزب العمال)، وهي الأماكن التي خسرها (حزب العمال) عامي 2017 و2019".

والمرحلة الأخيرة، التي تمكن "حزب العمال" من الفوز بالأغلبية، تتلخص في الفوز ببعض المقاعد التي كان "حزب العمال" بقيادة توني بلير يعتمد عليها... "إن أماكن مثل ووستر ونونيتون ودوفر، التي تدعم الفائز في الانتخابات عادة، هي بالتحديد ما يحتاج (حزب العمال) إلى الفوز فيها من أجل بناء الأغلبية".

يحظى "حزب العمال" بالفارق نفسه الذي حققه في المرحلة نفسها التي قادت إلى النصر الساحق عام 1997 عندما فاز رئيس الوزراء العمالي السابق توني بلير بأغلبية ساحقة

وبدأ كل من "حزب المحافظين" و"حزب العمال" حملة رقمية خاطفة بملايين الجنيهات الإسترلينية طال انتظارها، مستفيدين من قيود الإنفاق الانتخابي المخففة مؤخرا، ما سيكون استطلاع الرأي الأكثر تكلفة في تاريخ بريطانيا. إن رفع سقف الإنفاق يعني أن بإمكانهم ضخ ملايين إضافية في الإعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي في هذه الانتخابات أكثر مما كان مسموحا به في عام 2019.
يمكن للأحزاب إنفاق 35 مليون جنيه إسترليني في هذه الانتخابات، أي ما يقرب من ضعف الحد الأقصى البالغ 19.5 مليون جنيه إسترليني عام 2019، بعد رفع الحد الأقصى في نوفمبر/تشرين الثاني لمراعاة التضخم، الأمر الذي يزيد من أهمية الحملات الإعلانية الرقمية للأحزاب السياسية الرئيسة، والتي يمكن أن تستهدف الناخبين بشكل مباشر أكثر وبتكلفة أقل من البحث عن تصيد الأصوات التقليدي وجها لوجه.

أي بي أيه
العلم البريطاني أمام مقر البرلمان في 24 مايو

وقال كريغ أوليفر، مدير الاتصالات السابق لديفيد كاميرون، إن التأثير على تغطية "بي بي سي" كان الهدف الرئيس لجميع مسؤولي الصحافة السياسية. كان هذا يعني الاتصال بمحرري برامج إخبارية تلفزيونية معينة. الآن يتحول التركيز نحو الإنترنت: "إن النطاق الهائل لموقع (بي بي سي) وحده وتنبيهاته الإخبارية العاجلة ضخم للغاية. وما إن يصل شيء ما إلى سيل الإمدادات الجارف لهيئة الإذاعة البريطانية، سيكون من الصعب جدا إخراجه".
وستتنافس الانتخابات حول ست قضايا رئيسة. في ما يتعلق بالاقتصاد، سوف يشير سوناك إلى انخفاض التضخم والتخفيضات الضريبية الأخيرة كمؤشرات على أن المحافظين يمثلون الأيدي الأكثر أمانا، في حين سيقدم تلميحات حول المزيد من التخفيضات الضريبية لجذب الناخبين.
في حين أن "حزب العمال" سوف يجادل بأن قواعده المالية الصارمة ستساعد في خفض الديون وتنمية الاقتصاد، وقد يشير على الأرجح إلى ارتفاع فواتير الغذاء والطاقة وفوضى الرهن العقاري التي أثارتها ميزانية رئيسة الوزراء السابقة  ليز تراس المصغرة.
في مجال الصحة، جعل سوناك خفض قوائم انتظار الخدمات الصحية الوطنية أحد تعهداته الرئيسة، ملتزما بتقديم تمويل قياسي يقارب 165 مليار جنيه إسترليني- ولكن لا زال هناك تراكم كبير في الأعمال غير المنجزة. هناك أيضا أزمة في ميدان طب الأسنان وقد حذر قادة الرعاية الاجتماعية من أن الحاجات الملحة المتزايدة وقضايا التوظيف أدت إلى ركوع النظام على ركبتيه. وتشمل التعهدات الرئيسة لـ"حزب العمال" وعودهم بخفض أوقات الانتظار من خلال آلاف المواعيد الإضافية في كل أسبوع وإنشاء قوائم انتظار مشتركة حتى تتمكن المستشفيات من تجميع الموارد.
وفي ما يتعلق بمسألة الهجرة، وضع سوناك منصبه كرئيس للوزراء على محك الوعد بـ"إيقاف القوارب" وتحول مشروع القانون الخاص برواندا الذي طرحته الحكومة إلى قانون في الشهر الماضي أخيرا. لكن قرار الدعوة إلى انتخابات صيفية يعني أن الطائرات لن تقلع قبل أن يتوجه الناس إلى الاقتراع. تعهد ستارمر بإلغاء الصفقة واستخدام الأموال بدلا من ذلك لإنشاء وحدة جديدة لشرطة الحدود للتصدي لعبور القوارب الصغيرة.
أما التعليم فهو الميدان الفاصل الرئيس بين الحزبين الأساسيين. وإحدى السياسات القيادية لـ"حزب العمال" تكمن في إنهاء الإعفاءات الضريبية التي تحظى بها المدارس الخاصة بهدف جمع 1.7 مليار جنيه إسترليني للاستثمار في المدارس الحكومية. وتعتبر رعاية الأطفال قضية مثيرة للخلاف أيضا. حيث التزم "حزب العمال" بالحفاظ على المخصصات الموسعة المجانية الحكومية، لكنه أعلن عن عدم وجود عدد كافٍ من الموظفين لتغطية كافة الأماكن.
أما بخصوص الإسكان، فقد تعهد "حزب المحافظين" في بيانه الانتخابي ببناء 300 ألف منزل جديد سنويا بحلول منتصف عام 2020، لكن ذلك لم يتحقق وقد انخفض هذا الرقم في ديسمبر/كانون الأول 2022. بينما تعهد "حزب العمال" بالوقوف إلى جانب "البنائين وليس المعيقين" وأعلن عن طموحه ببناء 1.5 مليون منزل جديد، من خلال إنشاء "مدن جديدة". إن كلا من مشروع قانون الإصلاح الحكومي الخاص بالمستأجرين ومشروع قانون العقارات الرئيسين لن يصبحا قوانين قبل الانتخابات. هذا وقد دعم "حزب العمال" كلا التشريعين، لكنه يريد الذهاب إلى أبعد من ذلك ويقول إنه سيلغي عمليات الإخلاء من دون سبب.
ويواجه نظام العدالة الجنائية مشكلات كبيرة مع امتلاء السجون، وتزايد "جرائم السكاكين"، وتراكم العمل في محاكم التاج بشكل قياسي، وتدني مستويات الملاحقات القضائية أكثر من أي وقت مضى. وأعلن المحافظون عن خطط لفرض عقوبات أشد صرامة على أخطر المجرمين ووضع إجراءات لإجبار الجناة على المثول في قفص الاتهام. في حين وعد "حزب العمال" بأن يكون "صارما في مواجهة الجريمة، وصارما في التعامل مع أسباب الجريمة" مع تعهداته بتقديم التمويل للمزيد من ضباط الشرطة المجتمعية وإعطاء الآباء دروسا في كيفية التعامل مع السلوك المعادي للمجتمع.
وبعد الدعوة للانتخابات، من المؤكد أنه لا يوجد نقص في القضايا التي ينبغي على المرشحين التركيز عليها خلال الحملة التي تستمر ستة أسابيع. إن التحدي الذي يواجه سوناك هو ما إذا كان قادرا على كسب الجدل حول كل من هذه القضايا بالقدر الكافي الذي يسمح له بالفوز بإعادة انتخابه رئيسا للوزراء في يوليو القادم.

font change

مقالات ذات صلة