تتصاعد قيمة الديون على المستوى العالمي، حيث تظهر بيانات حديثة أن هذه الديون ارتفعت 1,3 تريليون دولار في الربع الأول من السنة الجارية لتصل إلى 315 تريليون دولار. تمثل هذه الديون 330 في المئة من الناتج العالمي الإجمالي، بحسب بيانات معهد التمويل الدولي (IIF).
لا شك في أن الديون اختراع إنساني قديم جاء نتيجة متطلبات العمل الاقتصادي حتى في المراحل البدائية من التاريخ الإنساني. يذكر الكاتب ديفيد غريبر في كتابه المهم الصادر عام 2011 بعنوان "الدين: أول 5000 عام" (Debt: The First 5000 Years)، أن فكرة الاستدانة نشأت في الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين عام 3500 قبل الميلاد تقريباً.
كان الفلاحون يستدينون ويدفعون بأبنائهم إلى العبودية من خلال الرهن. الديون التي ساهمت في تطوير عمل المرابين، كانت مذلة للمقترضين الذين يعجزون عن تسديد ديونهم، والرسوم والفوائد التي تفرض عليها. لكن بعد الثورة الصناعية الأولى وتطور المدن في بريطانيا وأوروبا، تأسست أنظمة الاقتراض والتسليف نتيجة التوسع الاقتصادي الذي نتج من تغير البنية الاقتصادية وتأثيرات أعمال التصنيع. كان لا بد للاقتصاد الزراعي أيضا من أن يتغير ويتمكن من توفير فائض في المنتجات الزراعية للوفاء بالطلب من المدن الصناعية الجديدة. بمعنى آخر، كان لا بد من توفير الأموال لدعم الإنتاج الصناعي وتطوير العمل الزراعي.
صار الاقتصاد العالمي مدمناً الاستدانة، 315 تريليون دولار، تمثل هذه الديون 330% من الناتج العالمي الإجمالي، بحسب بيانات معهد التمويل الدولي
بدأ النظام المصرفي بتأسيس الشركات المتخصصة بالتمويل على نطاق محلي محدود، للوفاء بالاحتياجات في المدن والمناطق الريفية. لكن هناك مصادر تاريخية تشير إلى أن أول مصرف للتمويل تأسس في إيطاليا في القرن الخامس عشر في جمهورية فلورنسا. هناك الكثير من القصص حول نشأة النظام المصرفي في العالم، ولكن ما يجب التطرق إليه هو أن الاقتصاد العالمي صار مدمناً الاستدانة، والدليل على ذلك حجم الديون المصرفية التي سبقت الإشارة إليها والتي تشمل ديوناً سيادية، أي ديون حكومات ودول، والديون الخاصة التي تتعلق بالشركات والمؤسسات والأفراد في مختلف القطاعات.
إقرأ أيضا: عاصفة الديون العالمية تطرق الأبواب
كذلك، هناك الديون الاستهلاكية التي تمثل استدانة الأفراد والعائلات، الخاصة بتمويل الاستهلاك، الذي يشمل إقتناء السلع المعمرة والمساكن والخدمات ومنها السفر والاستجمام. وعززت البطاقات الإئتمانية التي تصدرها الشركات المتخصصة، نزعات الاستهلاك الترفي في مختلف دول العالم.
ديون استثمارية: اليابان وألمانيا
طوَّرت الأنظمة المصرفية في الدول المختلفة خدماتها لتلائم الطلب المتنامي على الديون المتنوعة. ارتفاع الديون وتوسع قاعدة المدينين، هما أبرز المشاكل التي واجهتها المصارف ومؤسسات التمويل. شملت الديون الحكومات وأضافت أعباء عليها لمواجهة خدمة هذه الديون.
لم تستثن هذه المسألة أياً من الدول، سواء أكانت دولا نامية أم صناعية غنية ومتطورة. هناك دول صناعية متقدمة وتعمل بموجب معايير اقتصادية رشيدة تتحمل ديونا سيادية عالية، ومن هذه الدول اليابان التي بلغت ديونها 261 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك ألمانيا التي استدانت حكومتها ما يعادل 66,5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن مثل هاتين الدولتين الصناعيتين تقترضان من أسواقهما المالية المحلية ولا تعرضان أوضاعهما للإنكشاف الخارجي، كلما كان ذلك ممكناً. في طبيعة الحال، تطرح الدول الصناعية سندات الدين الحكومي في الأسواق المالية ويتاح للمستثمرين الأجانب والمؤسسات الاستثمارية والمالية والأجنبية الاكتتاب فيها أو اقتناؤها من الأسواق الثانوية. وتعتمد الدول على الاستدانة من أجل تمويل الإنفاق العام، وخصوصاً الإنفاق الاستثماري والمشاريع الكبرى. لكن يبدو أن هناك دولا، متطورة ونامية، تستدين الأموال لمواجهة التزامات الانفاق الجاري.
الديون بين التنمية والارتهان
ربما من الصعب تحرر الدول والمؤسسات والأفراد من قبضة الديون في هذا الزمن، ولكن كيف يمكن توظيف الديون على أسس عقلانية ودون العجز عن تأدية خدماتها؟ هذا هو التحدي الذي تواجهه دول عدة، ناهيك عن المؤسسات الخاصة.
هناك دولا تواجه حاليا مديونيات ضخمة انعكست على تصنيفها الإئتماني وزادت الضغوط على أسعار صرف عملاتها الوطنية وعقدت توجهات السياسة المالية والنقدية
تنامي الديون قد يكون ذا منفعة إذا ما تم استخدامها في تطوير البنية التحتية والمرافق الأساسية أو في المشاريع المدرة للعوائد. هناك دول اقترضت وأصبحت تواجه معضلات قاسية في خدمة الديون بعدما تراجعت إمكاناتها الاقتصادية ولم تتمكن من توفير الأموال اللازمة لأداء الاستحقاقات. كما أن هناك دولا تواجه حاليا مديونيات ضخمة انعكست على تصنيفها الإئتماني وزادت الضغوط على أسعار صرف عملاتها الوطنية وعقدت توجهات السياسة المالية والنقدية. وبموجب المعايير المعتمدة من المؤسسات المالية الدولية، تتوزع الديون في كل بلد قطاعياً بين ديون القطاع العائلي والمؤسسات غير المالية والقطاع الحكومي والمؤسسات المالية.
عند استعراض أوضاع الديون في مختلف الدول، يتضح أن القطاع الحكومي يتحمل العبء الأكبر من هذه الديون التي قد تكون أجنبية (External Debts)، أو ديونا محلية مثل سندات الخزينة أو أذونات الخزينة.
ديون الدول العربية
اقترضت الدول العربية أموالا طائلة من المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين وعدد من المؤسسات المصرفية الأجنبية. أدت هذه الديون إلى ارتفاع تكلفة خدمة الدين.
يمكن للدول الخليجية الاقتراض، بدلا من تسييل أصول صناديقها السيادية، لكن هذه الديون يجب أن توظف في مشاريع تعزز قدراتها على تنويع القاعدة الاقتصادية
تقدر ديون مصر الخارجية في الوقت الراهن بنحو 168 مليار دولار مما دفع السلطات الاقتصادية الى إجراء مفاوضات شاقة مع صندوق النقد الدولي من أجل صياغة برامج لسداد الديون، وكذلك الى اعتماد سياسات إصلاح اقتصادية قاسية وتحرير سعر صرف الجنيه المصري، وهناك مبادرات مهمة اعتمدت أخيراً قد تؤدي إلى تحقيق هذه الأهداف.
وتواجه تونس ولبنان والجزائر وعدد آخر من الدول العربية ديونا بمستويات متعددة. لكن الدول النفطية في الخليج عملت على الاستدانة لتمويل عجز الموازنات الحكومية بعد تراجع أسعار النفط في عام 2014. في طبيعة الحال يمكن للدول الخليجية الاقتراض، خصوصاً عندما تكون أسعار الفوائد متهاودة، بدلاً من تسييل أصولها المملوكة من صناديقها السيادية. بيد أن هذه الأموال يجب أن توظف في مشاريع تعزز قدراتها على تنويع القاعدة الاقتصادية.