شعراء كتبوا القصة القصيرة... ضفة إبداعية موازية

من ريلكه إلى سركون بولص

shutterstock
shutterstock

شعراء كتبوا القصة القصيرة... ضفة إبداعية موازية

أفردت أقلية من الشعراء اهتمامهم بكتابة القصة القصيرة كولع هامشي غير الشعر الذي دمغ حياتهم بشكل مركزي، إذ حجب الوجه الشعري لقصائدهم ظل القصص القصيرة التي اجترحوها كأنهم اقترفوا خيانة ما، وظلت تلك القصص عزلاء يتيمة، شبه منذورة للصمت، بل هناك نزعة نقدية تقصدت إهمال ما أنجزوه من نصوص سردية، كأن خلقها الأدبي مجرد نزوة. وفي المقابل، لم ينتبه جانب آخر من النقد، عن كسل أو عن غير مبالاة، إلى قوة تلك النصوص وإبداعيتها التي تسمق بها لتوازي قيمة ما أنجزوه من شعر وتضاهيه.

لا نعني هنا الكتاب الذين زاوجوا بين كتابة الشعر وكتابة القصة القصيرة، أمثال إدغار آلن بو وكاترين مانسفيلد وبورخيس، كما لا نعني كتاب القصة القصيرة الذين دشنوا أفقهم الأدبي بنصوص شعرية ثم تحولوا عنها والتزموا كتابة السرد، أمثال هوراسيو كيروغا وخوليو كورتاثار. بل نعني شعراء في الدرجة الأولى، نذروا وجودهم للشعر، وذاع صيتهم كشعراء لا غير، في الوقت الذي أغوتهم كتابة أخرى، وزاولوها ضمن فراغات مريبة اعتورت حياتهم الصاخبة، فأثمرت قصصا قصيرة خلدت كأثر جروح لامعة وغائرة في ذاكرة كتابتهم. أثر، نادرا ما التفت إليه، لأن النظرة الرسمية إليهم، يحتكرها ويستأثر بها الشعر وحده. في حين أن النصوص القصصية، التي تجاسروا على إنجازها وغامروا بدخول تجربتها انفردت بقيمة أدبية عالية وإن لم يردفوها بتجارب أخرى تعزز رصيدهم السردي. بالرغم من عزلة هذه النصوص، وارتكانها إلى هامش كتابتهم الشعرية، بقيت تدخر قوتها، تضمر جمالها بصمت وتصون حكمة غرابتها الى زمن آت... زمن سيبزغ فيه معدن ألقها مع مسح الغبار عن منطقة كنوزها، واستكشافها من جديد، مما يفتح هامشا منسيا لخريطة مجهولة حول مبدعيها، بإضاءة مناطق عاتمة من وجوههم ووجودهم المنهوب استهلاكا من ضوء الشعر.

استكشاف يعزز الحاجة الأنطولوجية لقول أشياء لا يمكن أن يستأثر بقولها الشعر وحده دائما وأبدا: هناك الحاجة إلى شعر أيضا لا يتحقق بالقصيدة وحدها، وهناك الحاجة إلى القبض على أشياء منفلتة، لا يمكن الإطباق عليها دائما بالشعر وحده.

ثم هناك ما يعزز غواية السرد، وإبداعية القصة القصيرة بالذات، التي سحرت هؤلاء، فمارسوا كتابتها بمخاطرة وارتياب، فظلت كتابتهم السردية تلك تلمع كحجر أبيض راسب في بحيرة ما راكموه من شعر.

قارئ قصص ريلكه القصيرة لا بد أن تلفعه رياح مندلعة من خلفية طفولية تضمخ تخييل نصوصه السردية

وكنموذج سامق لهذا المنحى من الكتابة القصصية، التي أنجزها شعراء طبقت شهرتهم الآفاق بفعل الشعر، يمكن التمثيل إشارة ولمعا، إلى أربعة أسماء على سبيل المثل لا الحصر: راينر ماريا ريلكه، وفيرناندو بيسوا، وإنغبورغ باخمان، وسركون بولص.

راينر ماريا ريلكه

تنضح قصص راينر ماريا ريلكه (1875 - 1926) بضراوة القلق، دوارة في انشطارات ذاتية، معنية بملاذات فردانية مضطربة، هي صورة مضاعفة لوضع اجتماعي وتاريخي. قصص تحتكم إلى تجارب حياة رمادية، ترصد الإحداثيات اليائسة والمنعزلة والمأسوية لقدر الإنسان المندحر، عبر مقدرة هائلة على التصوير والتشخيص والحفر داخل اللحظة الإنسانية بوعي يقظ وحاد.

ثمة غنائية تتواتر في سرد ريلكه القصصي، يبرع في ابتكار إيقاعية لها نسق شعري، غير النسق الذي يتخلق بالقصيدة، فضلا عن صوفية تتماوج بها رؤية الحب في القصص الذي لا يتمرأى هنا في حالات عزلاء منطوية، بل في اصطدام واحتدام مع وجوه الكراهية والحقد واليأس والعنف والموت.

قارئ قصص ريلكه القصيرة لا بد أن تلفعه رياح مندلعة من خلفية طفولية تضمخ تخييل نصوصه السردية، إذ ينحو هذا التخييل صوب استغوار الذاكرة، كلما رسمت القصص الطريق الجوانية إلى الشخوص النسائية؛ طريق ملتوية ممتدة عبر التعرية، موغلة في غابة الأشياء الداخلية الداغلة.

ريلكه لا يترك أدواته الشعرية جانبا هنا، عندما يتعلق الأمر بتشخيص العزلة القصوى، وتفجير الطاقة الغامضة للحالات السوداوية، كما لا ينسى جسارته اللاذعة والإيحائية في توجيه المطارق إلى أنصاب البداهات المستفحلة، بما فيها أشكال القيم ذات العلاقة بالقومية والوطن والسياسة والحرب (قصة "وليمة العائلة").

Getty images
راينر ماريا ريلكه (1875 - 1926)

اللافت في القصص أيضا هو جنوحها إلى تصوير أقرب إلى بلاغة النحت، كلما تعلق الأمر برسم وجوه وهيئات وملامح هلامية منفلتة، وهنا تلمع في ظلال النصوص أزاميل رودان التي يستنطق بها حجر الصمت (قصة "فلاديمير رسام الغيوم").

وعلى الرغم من الحسية الدامغة في بعض القصص، فالمسافات محسوبة في الاشتغال الداخلي والخارجي على الأشياء. اشتغال يعي اللعبة تماما، ولا يفرط في الحسي على حساب الفني، كما لا يبالغ في التصوير على حساب الموضوع الجوهري.

قصص ريلكه شأنها شأن شعره أيضا، مؤرقة بالوجود وقلقه المزمن، وهي في ذلك ذات نزعة حادة أشبه ما تكون كيركيغاردية (قصص "إيفالد تراجي" و"توحد" و"كيف وصلت الخيانة إلى روسيا").

وكيفما بدت القصص موغلة في مصائر ذوات منشطرة تعاني أفدح حالات العزلة واليأس والموت ("قصة حفار القبور")، فهي في العمق النائي، رسم لصورة إنسانية كلية، وإعمال نظر فكري حاد في قلق العصر وتوتراته واضطراباته العاتية.

فيرناندو بيسوا

 كتب الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا (1888–1935) بأسماء مستعارة: ألبرتو كاييرو، وألفارو دي كامبوس، وريكاردو رييس، وبرناردو سواريش، وقد حافظ على اسمه الحقيقي في كتابة قصص بعينها، وكتب أخرى بمسمى مغاير.

الأسماء المستعارة التي اختارها بيسوا كأقنعة لذاته المتعددة، تتماهى مع شخصيات قصصه القصيرة

قصص بيسوا ذات قيمة أدبية وأثر فني لا يقل شأنا عن إبداعية شعره. في عشرات القصص القصيرة التي خلفها بيسوا، هناك مناح متعددة للأسلوب الذي سوغ به مادته الحكائية، بين نزوع فانتازي ونزوع تأملي ونزوع بوليسي.

اللافت أو المسترعي للانتباه هو أن الأسماء المستعارة التي اختارها بيسوا كأقنعة لذاته المتعددة، تتماهى بشكل من الأشكال مع شخصيات قصصه القصيرة، تارة كمفكر وفيلسوف، وتارة كفلكي، وتارة كعالم اقتصاد، وتارة كعالم فيزيائي. هذه التناقضات المعتملة في ذات يستشرس فيها التعدد، يفصح عنها سرد قصص بيسوا، عبر أفكار تبني خططها التخييلية، بالاحتكام إلى خلفية معرفية وأطروحية هائلة، يتواشج فيها الفكري بالفلسفي، والشعري بالموسيقي، والعلمي بالاقتصادي، والواقعي بالخيالي، واليومي بالرمزي.

wikipedia
الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا (1888–1935)

هي قصص تبرع في استخطاط أشكال حكيها، ولا ترتكن إلى نمطية القص الكلاسيكي الذي عاصره بيسوا. قصص، وإن يثقل كاهلها الاستكناه الميتافيزيقي لحالات وجودية، والجنوح إلى التنظير أحيانا، أو تفخيخ النص بشذرات حكمية، والولع بالتشخيص الإنساني والحضاري لحالات فردية هشة ومتوترة، فهي منتبهة بحذاقة لمشغلها الفني وتبتكر طرقها الخاصة في صوغ الرؤى ورسم الخرائط وحبك العوالم الدوارة.

المتنزه في حدائق بيسوا السردية هذه، لا بد أن يصادف أشباح كل من إدغار آلن بو (قصة "كواريزما فكاك الرموز" كنموذج) وتشيخوف (قصة "البحار التي تعتمد تكنيكا مسرحيا" كمثل)، وهيرمان هيسه وتوماس مان ("ناسك الجبل الأسود" كمثل) وغوغول ("رسالة الحدباء").

إنغبورغ باخمان

كذا الشاعرة النمساوية إنغبورغ باخمان (1926 –1973)، وإن لمع اسمها في كتابة المسرحيات أيضا غير الشعر، وفي ما بعد الرواية، كتبت قصصا قصيرة كهامش يغذي بشكل خاصب منجزها الأدبي الشهير بوجهه الشعري.

قصص باخمان التي يحتد فيها صمت الفراغات تبدو تقنية في الحكي وليس عجزا

القصص السبع لمجموعتها القصصية "العام الثلاثون" 1961، يعتمل فيها القلق باصطخاب، راصدة لمصائر فردية حادة في اصطدامها المدوي بحقائق التحول. حقائق مفزعة تضاعف من هشاشة الذوات النسائية المنذورة للحب والموسيقى والتناغم. ما يشبه التشخيص الإيحائي لمأسوية الوجود الإنساني ما بعد الحرب. سعت باخمان في لغتها الجديدة لسحج طبقات النازية الملتاثة من لاشعور الكلمة، ودفعت بأبطالها الرجال في نزوع يائس إلى الحرية والمطلق، محاولة استغوار جليد اللاتواصل في العلاقات الإنسانية، بين الرجال والنساء، بين الذكور في ما بينهم وبين الإناث أيضا.

قصص باخمان التي يحتد فيها صمت الفراغات وتعتورها المحذوفات التي تذكرنا بفرجينيا وولف، تبدو تقنية في الحكي وليس عجزا، كما هاجمها نقاد لحظتها التاريخية المصطخبة. مصطخبة بالنظر إلى مضاعفات الحرب النازية المفزعة من جهة، وبالنظر إلى جسامة الحوادث المريبة التي عصفت بحياتها الشخصية من جهة أخرى.

Getty images
الشاعرة النمساوية إنغبورغ باخمان (1926 –1973)

عن إرث الحرب العالمية الثانية ومضاعفاته، عن قضايا الجلاد والضحية ذات الهزات النفسية العاصفة والارتدادات العميقة اللانهائية، كصورة مزمنة لمجتمع مريض، على جلاديه وضحاياه أن يتعايشوا من أجل تشكيل مستقبل جديد، عن تقاليد الزواج البورجوازي وانكساراته بين الرجل والمرأة، عن الحقيقة الموروثة بإطلاقية وشقاء الحكم بالعدالة، عن الحنين والطفولة وتقلبات الفرد في مهب المصائر العنيفة، تتشظى قصص انغبورغ باخمان كأصداء مدوية من هاوية تجربة حياتها، تجربة الذات التي تتشابك مع مناطق أخرى حادة، لها علاقة جدلية بالتفكير الوجودي المؤرق، واستقراء المعنى الإنساني في معترك الحقد والكراهية والحرب والألم والحب والعزلة واللاتناغم والموت.

سركون بولص

جرب الشاعر العراقي سركون بولص (1944- 2007) كتابة القصة القصيرة في ستينات القرن الماضي، ولم تصدر له مجموعة تضم مجمل هذه النصوص التخييلية حتى 2015 عن "دار الجمل" تحت عنوان " عاصمة الأنفاس الأخيرة"، وهو نفسه عنوان القصة القصيرة التي يختلف زمن إنجازها عن الأخريات إذ كتبها عام 1992.

قصص سركون بولص ابنة شقية للحظتها التاريخية المضطربة والمتحولة

"عاصمة الأنفاس الأخيرة"، ابنة شقية للحظتها التاريخية المضطربة والمتحولة، عراق الستينات في مجمل إحداثيات خرائطه السوداوية، يرسمها تخييل القصص عبر لغة مكثفة، لاذعة، تستغور الحالة الإنسانية المتوترة، المأزومة، المنشطرة، والمحاصرة، بالقدر نفسه الذي يتقصى هذا التخييل هندسة المدينة من الداخل والخارج، في صدام محتدم بين الذات ومراياها، بين النفوق في سردايب الأمكنة الرازحة تحت وطء الرقابة البوليسية لزمن سياسي واجتماعي مزمن، وبين حلم الانعتاق من خرائبها. في هذا المناخ الكابوسي تتأرجح الشخوص المأسوية وهي هامشية في الغالب، بين مصائر عبثية وأخرى كاريكاتورية، توحدها قسوة العزلة والهروب والجنون.

wikipedia
الشاعر العراقي سركون بولص (1944- 2007)

لا تستغرق القصص في واقعيتها السوداوية على نحو خطي، بل تناور وتفاجئ، وبقدر ما تغمز وتلمح تخرج عن طور المألوف منتصرة إلى غرابتها، وما أن توشك على الانغلاق، تنفتح على نحو مباغت ولا متوقع، كما في نهاياتها الماكرة.

بهذه الصورة وتلك، تشترك التجارب القصصية لهؤلاء الشعراء وآخرين لا يتسع الحيز لذكرهم، في صنع ضفة موازية لشعرهم، وإن لم يتم الالتفات إليها بالشكل اللائق بها، وبالنظر إلى وفرة القصائد التي كتبها هؤلاء الشعراء مقابل التجارب اليتيمة لنصوصهم القصصية. فالصورة المتمثلة لقصصهم القصيرة النادرة التي أنجزوها خلسة، تبدو مثل زهرات خشخاش تائهة في التموج الهائل لقصائدهم الزاخمة في السهوب كالشوفان.

font change

مقالات ذات صلة