أفردت أقلية من الشعراء اهتمامهم بكتابة القصة القصيرة كولع هامشي غير الشعر الذي دمغ حياتهم بشكل مركزي، إذ حجب الوجه الشعري لقصائدهم ظل القصص القصيرة التي اجترحوها كأنهم اقترفوا خيانة ما، وظلت تلك القصص عزلاء يتيمة، شبه منذورة للصمت، بل هناك نزعة نقدية تقصدت إهمال ما أنجزوه من نصوص سردية، كأن خلقها الأدبي مجرد نزوة. وفي المقابل، لم ينتبه جانب آخر من النقد، عن كسل أو عن غير مبالاة، إلى قوة تلك النصوص وإبداعيتها التي تسمق بها لتوازي قيمة ما أنجزوه من شعر وتضاهيه.
لا نعني هنا الكتاب الذين زاوجوا بين كتابة الشعر وكتابة القصة القصيرة، أمثال إدغار آلن بو وكاترين مانسفيلد وبورخيس، كما لا نعني كتاب القصة القصيرة الذين دشنوا أفقهم الأدبي بنصوص شعرية ثم تحولوا عنها والتزموا كتابة السرد، أمثال هوراسيو كيروغا وخوليو كورتاثار. بل نعني شعراء في الدرجة الأولى، نذروا وجودهم للشعر، وذاع صيتهم كشعراء لا غير، في الوقت الذي أغوتهم كتابة أخرى، وزاولوها ضمن فراغات مريبة اعتورت حياتهم الصاخبة، فأثمرت قصصا قصيرة خلدت كأثر جروح لامعة وغائرة في ذاكرة كتابتهم. أثر، نادرا ما التفت إليه، لأن النظرة الرسمية إليهم، يحتكرها ويستأثر بها الشعر وحده. في حين أن النصوص القصصية، التي تجاسروا على إنجازها وغامروا بدخول تجربتها انفردت بقيمة أدبية عالية وإن لم يردفوها بتجارب أخرى تعزز رصيدهم السردي. بالرغم من عزلة هذه النصوص، وارتكانها إلى هامش كتابتهم الشعرية، بقيت تدخر قوتها، تضمر جمالها بصمت وتصون حكمة غرابتها الى زمن آت... زمن سيبزغ فيه معدن ألقها مع مسح الغبار عن منطقة كنوزها، واستكشافها من جديد، مما يفتح هامشا منسيا لخريطة مجهولة حول مبدعيها، بإضاءة مناطق عاتمة من وجوههم ووجودهم المنهوب استهلاكا من ضوء الشعر.
استكشاف يعزز الحاجة الأنطولوجية لقول أشياء لا يمكن أن يستأثر بقولها الشعر وحده دائما وأبدا: هناك الحاجة إلى شعر أيضا لا يتحقق بالقصيدة وحدها، وهناك الحاجة إلى القبض على أشياء منفلتة، لا يمكن الإطباق عليها دائما بالشعر وحده.
ثم هناك ما يعزز غواية السرد، وإبداعية القصة القصيرة بالذات، التي سحرت هؤلاء، فمارسوا كتابتها بمخاطرة وارتياب، فظلت كتابتهم السردية تلك تلمع كحجر أبيض راسب في بحيرة ما راكموه من شعر.