جورج باسليتز العائد إلى خطاياه

اعترافات تتجسد في لوحات

AFP
AFP
الفنان الألماني جورج باسليتز

جورج باسليتز العائد إلى خطاياه

قبل أقل من سنة أقامت قاعة "سربنتين" بلندن معرضا كبيرا لمنحوتات الفنان الألماني جورج باسليتز. في ذلك المعرض لم يخف باسليتز رغبته في أن لا يكون نحاتا خالصا فعرض على جدران القاعة مئات التخطيطات التي كانت بمثابة أفكار أولية لمراحل تطور العمل النحتي. وكما هو متوقع نالت تلك التخطيطات اهتماما يليق بها باعتبارها رسوما مستقلة. فباسليتز (1938) عُرف منذ ستينات القرن الماضي رساما واشتهر بلوحاته المقلوبة التي أراد من خلالها أن ينهي سلطة المشهد على عين المتلقي وينحرف بها في اتجاه ما يملكه الرسم من قوة تعبير، ولتفسير فعلته تلك قال ذات مرة "لقد ولدت في نظام مدمر، ومناظر طبيعية مدمرة، وشعب مدمر، ومجتمع مدمر. ولم أرغب في إعادة تأسيس النظام. لقد رأيت ما يكفي مما يسمى نظاما، فاضطررت إلى التشكيك في كل شيء، وأن أكون ساذجا، وأن أبدأ من جديد".

قبل سنة لم تكن أعمال هذا المعرض الذي تقيمه قاعة "وايت كيوب" بلندن جاهزة، غير أن الرسام قرر وهو في سن السادسة والثمانين أن يقيم حفلة تصفيات، لذلك حمل معرضه الذي ضم أكثر من عشرين عملا كبيرا وعشرات التخطيطات عنوان "اعتراف بخطاياي". ولكن ما هي تلك الخطايا التي ارتكبها واحد من أهم رسامي الخمسين سنة الأخيرة في العالم؟

في عمره المتقدم يثبت باسليتز أن الأسلوب الفني لا يشيخ، بل يكون مع الزمن أكثر نضارة ويكون الفنان أشد تمكنا من موضوعاته التي يمكنه تناولها ببساطة. مثل ذلك، كلود مونيه الذي رسم أعظم لوحاته "زهور الماء" في ثمانيناته.

  قرر الرسام وهو في سن السادسة والثمانين أن يقيم حفلة تصفيات، لذلك حمل معرضه عنوان "اعتراف بخطاياي"

حكاية غرام قديم

"حفلة تصفيات" أقامها باسليتز عام 2023 ليرسم أكثر أعماله هدوءا وأشدها تعبيرا وتوترا. لقد عاد إلى الرسامين اللذين تأثر بهما في بناء عالمه الفني أكثر من سواهما، على الرغم من أنه يقر بأنه تأثر بالكثيرين من رواد التعبيرية التجريدية. الأميركي من أصول هولندية وليام دي كونينغ والإسباني بابلو بيكاسو. ذلك اعتراف لم يسبقه إليه الكثيرون وهو مستلهم من ثقافة الاعتراف التي لا ترى في مواجهة المرجعيات عيبا، بل تضعها في سياقها الطبيعي.

bermondsey-20240

وإذا كان هناك مَن يخفي مراجعه، فإن فنانا كبيرا بحجم باسليتز لا يرى في الاعتراف بما فعله شيئا يعكر سيرته. ربما كان بيكاسو من أكبر اللصوص الخلاقين الذين تركوا لنقاد الفن مهمة البحث عما اقتبسه من الآخرين، أفرادا وجماعات، غير أن هنري ماتيس كان قد استند إلى مقولته الشهيرة "الأسد الذي يلتهم خرافا كثيرة يبقى أسدا ولن يتحول إلى خروف". لقد قرر باسليتز ألا يكون أسدا أو خروفا وأن يرفض صمت بيكاسو ويعترف من طريق الرسم بأن الخطايا التي ارتكبها وهو يتلصص على أعمال الآخرين قادته إلى بناء عالمه الذي لم يكن يشبه عالم أي رسام سبقه. وهو محق في ذلك. لوحة باسليتز، ببساطة خطوطها وقلة ألوانها، تقود إليه. خصوصية صنعها بمكر استلهام جمع المرئي بصورته المتخيلة. لقد تأثر باسليتز بدي كونينغ وبيكاسو لكن بطريقة مخاتلة. في هذا المعرض يكشف عما كان يفعله لو أنه تأثر بطريقة مباشرة. تلك حكاية غرام لم تفارق خياله.

bermondsey-20240

صار باسليتز في عمره متأكدا من أنه يتمكن من دي كونينغ وبيكاسو باعتبارهما صديقين. لذلك رسم ما كان يتمنى رسمه حين كان صغيرا. منذ اللحظة الأولى للمشاهدة يفرض الرسام التأمل على المتلقي بدلا من أن يتعبه في البحث عن التفاصيل. موضوعاته ليست معقدة، فهي جميعها مستلهمة من العالم الحقيقي. الإنسان وما جاوره من خيول وأبقار وغزلان. ليس الموضوع مهما. لا يعيدنا الرسام إلى ثنائية "ما الذي ترسم؟ ولكن المهم كيف ترسم". الرخاء الذي تفرضه الأعمال الفنية على طريقة التفكير فيها تنهي التفكير بالموضوعات. فالرسم ليس موضوعه. الرسم هو أسلوب في إقناع العين بأن ما تراه في اللوحة هو حقيقي بغض النظر عن اختلافه مع الواقع. ذلك ما يُسمى بالمزاج.

 رسم الفنان خلفيات لأعماله تنافس في قيمتها الجمالية ما رُسم عليها غير أنها لا تنفصل عنه

كان لباسليتز مزاجه المعاصر الذي حاول في هذا المعرض أن يستعرض بأريحية مصادره. وكما أرى، فإن اعترافات الفنان يمكن أن تمر من غير أي أثر يُذكر على مَن لا يعرف عالمي دي كونينغ وبيكاسو من الداخل. وهو ما يعد فشلا لمشروع اعترافات الفنان الذي قد يجده البعض غير ضروري. من وجهة نظري، فإن باسليتز وقد بلغ السادسة والثمانين من عمره انما يعرف ما يفعل وهو يقدم درسه الأخير. فالمعرض الأخير هذا هو أفضل معارضه على الإطلاق. هو خلاصة تجربته في الرسم، وهو في الوقت نفسه تعبير عن تواضعه أمام معللميه اللذين أراد الاعتراف بأنه تأثر بهما من غير أن يترك تلك المهمة لنقاد الفن ومؤرخيه.

bermondsey-20240

يبدو كل شيء في لوحة باسليتز قد رُسم بخفة وسرعة. غير أن تأمل اللوحة جيدا يكشف عن تقنيات بطيئة استعملها الرسام من أجل أن يثبت عالمين، أحدهما فوق الآخر، وغالبا ما يشتبكان ليؤلفا صنيعا لا يفلت من بيئته بقدر ما يؤكدها. لقد رسم الفنان خلفيات لأعماله تنافس في قيمتها الجمالية ما رُسم عليها غير أنها لا تنفصل عنه. الفنان الذي يقف اليوم إلى جانب زميليه الألمانيين أنسلم كيفر وجيرهارد ريشتر في مقدمة مشهد الرسم الحديث في العالم، يكشف في هذا المعرض عن حقيقة أن الرسم لا يزال يخفي الكثير من أسراره الجمالية وهو لم يمت كما يزعم دعاة الفنون المعاصرة الذين أداروا ظهورهم للجمال ثمنا لاجتذاب الفكر كما يقولون. في لوحات باسليتز التي تُلهم الكثير من الأفكار الثمينة لا يزال الجمال حيا.

font change

مقالات ذات صلة