تأجير المستشفيات الحكومية يثير جدالا في مصر

قلق من تأجيرها للقطاع الخاص... وأمل بتحسن الخدمة وخفض عجز الخزينة

تأجير المستشفيات الحكومية يثير جدالا في مصر

تنفست مصر الصعداء في مارس/آذار المنصرم بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي جاء بعد سنتين من الاحتقان النقدي والمعيشي، والتضخم بإقرار من الموازنة الجديدة، الذي زادت الحروب الدائرة في غزة والسودان والبحر الأحمر حدته، إضافة الى الأخطاء الحكومية في إدارة الملف الاقتصادي. ومن ضمن أبرز بنود الاتفاق مع الصندوق، ومسار الخروج من المراوحة نحو حلول مستدامة، هو تطبيق الاصلاحات في القطاع العام، وخصخصة الشركات الحكومية، وإفساح المجال للقطاع الخاص للعب دوره الطبيعي.

من هنا تنشغل شريحة كبيرة من المصريين بمستقبل الصحة في البلاد بعد إقرار مجلس النواب قانون تأجير قطاعي المستشفيات الحكومية والتأمين الصحي الحكومي إلى القطاع الخاص، المحلي والأجنبي، وهما قطاعان أنشأهما العهد الملكي لخدمة الشعب.

منذ بدأت مصر نهضتها الحديثة، كان الباشوات ورجال المال والأعمال يشيدون المستشفيات ويعهدون بها إلى وزارة الصحة لعلاج الفقراء ومحدودي الدخل. وتعتمد الشريحة الكبرى من المواطنين على منظومة التأمين الصحي والعلاج في المستشفيات المملوكة من الدولة، وهي تضم عاملين في القطاعين العام والخاص لعدم قدرة كثيرين على تحمل تكاليف العلاج الباهظة في المستشفيات الخاصة.

تخوف من تحول الصحة إلى سلعة

يؤدي القطاع الصحي في مصر دوراً حيوياً لضمان توفير خدمات صحية مناسبة، على الرغم من محدودية الإمكانات المادية، والنقص الحاد في الكوادر الطبية المتخصصة والكثافة السكانية. وتشكل عملية تدبير الاعتمادات المالية اللازمة لتغطية الاحتياجات العلاجية للمواطنين عبئاً كبيراً على الموازنة العامة المصرية، وجزءاً أساسياً من بنود إنفاقها السنوي.

القانون الجديد يمنح المستثمر حرية تحديد أسعار الخدمات الصحية من دون سقف، ويسمح له بخفض نسبة العاملين المصريين في المنشأة إلى 75% واستبدال الـ25% الباقية بعمالة مصرية وأجنبية

مع ضبابية القانون الذي أقره مجلس النواب المصري أخيراً والمقدم من الحكومة، تعالت أصوات المصريين تعبيراً عن حقهم في الصحة وتخوفهم من الاستثمار أو تسليع الخدمات الصحية واحتكارها. مجلس النواب والحكومة سارعا معا بإصدار القانون لإرضاء الصندوق الذي يزور وفد منه القاهرة حالياً، وسيبقى فيها حتى منتصف يونيو/حزيران لمراجعة الإصلاحات المتفق عليها، بغية صرف الدفعات المقررة وتسريع التخارج الحكومي من القطاعات الحكومية وطرحها للبيع أو الاستثمار.

Shutterstock
غرفة طوارئ في أحد مستشفيات مصر.

القانون الجديد يمنح المستثمر حرية تحديد أسعار الخدمات الصحية من دون حدود معينة، ويسمح له بخفض نسبة العاملين المصريين في المنشأة إلى 75 في المئة واستبدال الـ25 في المئة الباقية بعمالة مصرية وأجنبية. كذلك يمنح الحق في إدارة القطاع الخاص لتلك المنشآت لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على 15 سنة.

اهتمام رئاسي كبير بقطاع الصحة

يُذكَر أن الرئاسة المصرية أولت قطاع الصحة والعلاج على نفقة الدولة اهتماما كبيرا في السنوات الأخيرة، إذ شهد هذا القطاع زيادة غير مسبوقة في خدماته مقارنة بالعقود السابقة. وصار لدى غالبية المواطنين، الذين لا يتمتعون بمظلة التأمين الصحي، الحق في العلاج في المستشفيات الحكومية وعلى نفقة الدولة. وانتهت قوائم الانتظار الطويلة ورُفِعت كفاءة عدد من المستشفيات الحكومية وقطاع التأمين الصحي، خصوصاً تلك المتخصصة في علاج الأورام.

أثيرت مخاوف من سيطرة شركات أجنبية على القطاع الصحي في الدولة، مما قد يؤثر في سياسات العلاج والرعاية الصحية وبرامجهما، بما يعكس مصالح الجهات المالكة

وبدأت الدولة بإطلاق مبادرة التأمين الصحي الشامل في عدد من المحافظات بهدف تعميمها في كل المراكز في مصر. مع ذلك، تواجه هذه المبادرة عقبات في التنفيذ. وعلى الرغم من الجهود المبذولة، لا تلبي بعض القوانين توقعات المرضى الذين يشعرون بعدم شمولهم باهتمامات الحكومة ومجلس النواب. هم يرون أن الحكومة تخلت عنهم لتخفيف الضغط على موازنتها المالية المثقلة بالزيادة السكانية، على الرغم من أن هذه الزيادة تقلصت أخيراً.

هناك من يثير مخاوف من سيطرة شركات أجنبية على القطاع الصحي في الدولة، مما قد يؤثر في سياسات العلاج والرعاية الصحية وبرامجهما، بما يعكس مصالح الجهات المالكة. وقُوبِل القانون في الشارع المصري بمعارضة كبيرة ورفض الغالبية، سواء من المنتفعين من خدمات التأمين الصحي، أو ممن يُعالَجون على نفقة الدولة وهم الأكثر فقراً واحتياجاً، أو من الأطباء ونقابتهم التي أصدرت بيانات تدعو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى عدم المصادقة عليه خلال مهلة 30 يوماً تلي المصادقة عليه في البرلمان.

shifaegypt.com
مستشفى الشفاء في القاهرة.

وتباينت الآراء بين مؤيد لدور المستشفيات الحكومية في توفير خدمات صحية عالية الجودة للمواطنين بتكلفة منخفضة، أو مجانية تماماً، كما تساهم في توزيع الخدمات الطبية بشكل عادل ومتساوٍ، وبين من يشكك في دور الحكومة في هذا القطاع المهم ويثير العديد من العيوب، مثل طول فترة اتخاذ القرارات والبيروقراطية الزائدة التي قد تؤثر سلباً في كفاءة الخدمات وتأخير التقدم التكنولوجي لتوفير الرعاية الطبية المناسبة.

وحذّر خبراء اقتصاديون من إصدار القانون، خصوصاً ما يتضمنه من خصخصة للرعاية الصحية، ورأوا أنه يستهدف تبيان نية الحكومة لصندوق النقد الذي يطالب بتخارج الحكومة من القطاع العام وخفض نسب العاملين في الدولة. وأصدر العديد من المنظمات الاقتصادية والحقوقية والأحزاب ونقابة الأطباء بيانات ترفض القانون لأنه لا يضمن التزام المستثمر تقديم الخدمات الصحية التي تحددها الدولة بكل منشأة، وأبدوا مخاوف من إخراج بعض المستشفيات الحكومية من منظومة التأمين بما يُعيق التغطية الشاملة للمواطنين.

قبلة حياة للمستشفيات الحكومية

لكن هناك من يرى أن القانون يعتبر بمثابة قبلة حياة للقطاع الطبي الحكومي، لخلق منافسة بين مقدمي الخدمات بهدف تقديم أفضل خدمة صحية للمواطنين، وتفعيل حق المريض في اختيار المنشأة التي يتلقى الخدمة فيها. ويرى البعض أن المشكلة التي تواجهها الحكومة هي فشل الإدارة وليس الملكية.

كان عدد المستشفيات الحكومية نحو 664 مستشفى في عام 2021، في وقت بلغ عدد مستشفيات القطاع الخاص 1,145 مستشفى في العام نفسه، في مقابل 1,136 مستشفى عام 2020

تقريرالجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، 2023

تلتزم الدولة تخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي على الصحة لا تقل عن 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتتصاعد تدريجياً حتى تتوافق مع المعايير العالمية. ويتناقض التوجه الجديد مع ارتفاع مخصصات وزارة الصحة بدءاً من السنة المالية المقبلة التي تبدأ في الأول من يوليو/تموز، من ثلاثة مليارات دولار في موازنة السنة المالية الحالية (1,2 في المئة من الإنفاق العام) إلى 3,93 مليارات دولار، على الرغم من أن هذا الارتفاع لا يلبي احتياجات المصريين.

ويُقدَّر عدد المستشفيات التابعة للحكومة بنحو 664 مستشفى وفق أرقام عام 2021، وعدد الأسرّة الإجمالي في مستشفيات القطاع الحكومي بنحو 83 ألف سرير في مقابل أكثر من 88 ألف سرير عام 2020، بانخفاض بلغت نسبته 6,3 في المئة. في وقت بلغ عدد مستشفيات القطاع الخاص 1,145 مستشفى عام 2021 في مقابل 1,136 مستشفى عام 2020، وفق تقرير صادر عام 2023 من الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

وحظيت منظومة التأمين الصحي باهتمام كبير، بين عامي 2014 و2023 ونفذ 93 مشروعا لإنشاء وتطوير وتجديد مستشفيات وعيادات، وارتفع عدد المواطنين المؤمن عليهم صحياً من 50 مليونا إلى 53 مليون مواطن.

وكشف البنك الدولي عن ارتفاع معدل الفقر في مصر إلى 32,2 في المئة من عدد السكان في السنة المالية 2021-2022، مقارنة بـ29,7 في المئة في السنة المالية 2019-2020. وتوقعت دراسة مستقلة أجرتها مستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، هبة الليثي، أن يكون مستوى الفقر في السنة المالية 2022-2023 ارتفع إلى 35,7 في المئة.

مخاوف وأنين مرضى الأورام

تجولت "المجلة" في أروقة مركز الأورام في مدينة نصر، حيث يتلقى جميع المرضى العلاج، سواء منهم الخاضعون لمظلة التأمين الصحي أم الذين يعالجون على نفقة الدولة. وعبّر عدد من مرضى الأورام عن مخاوفهم وامتعاضهم من أن يطاول القانون المستشفيات التي تقدم لهم الخدمات، سواء المستشفيات الحكومية أم التأمين الصحي، الذي يعتمد عليه عشرات ملايين المصريين للعلاج وإجراء الجراحات وصرف الأدوية للأمراض المزمنة شهرياً.

وقالت هالة الأسيوطي، 40 سنة، وهي خارج منظومة التأمين الصحي وتتلقى علاجها على نفقة الدولة من سرطان الثدي والرقبة في مركز الأورام بمدينة نصر، إن العلاج الذي تقدمه الدولة إليها يتميز بمستوى عالٍ من الجودة، وتبلغ تكلفة الجرعة الواحدة في القطاع الخاص أكثر من 1,500 دولار كل ثلاثة أسابيع. وحالياً، تنتظر الموافقة لإجراء جراحة. وتتخوف هالة من تأثير القانون الجديد على علاجها.

Shutterstock
مستشفى جامعة سعاد كفافي، كلية الطب، جامعة مصر.

في المقابل، قالت هدى، 65 سنة، إنها تتلقى علاجها في المركز نفسه لأنها كانت موظفة في الدولة وتخضع إلى منظومة التأمين الصحي. وتأتي هدى من العريش في سيناء لتلقي جرعات العلاج الكيمبائي، وأوضحت أن تكلفة علاج الأورام لا يمكن لأحد مجابهتها، سواء أكانوا فقراء أم محدودي الدخل أم موظفين.

أما سامية عبد السلام، 62 سنة، التي تخضع إلى العلاج الكيمبائي منذ أربع سنوات، فقالت إنها تلقت علاجها في المستشفيات الخاصة لمدة سنة ونصف السنة، لكنها لم تستطع تحمل التكاليف الباهظة فلجأت إلى التأمين الصحي لاستكمال العلاج، الذي لا يزال مستمراً حتى الآن.

رفض الاقتصاديين والحقوقيين 

عبَّرت الخبيرة الاقتصادية الدكتورة حنان رمسيس في حديثها مع "المجلة" عن "الرفض التام للقانون، فعند تحول أي نشاط إلى القطاع الخاص تكون تكلفته مرتفعة للغاية". ومن المعروف في مصر أن الخدمات الصحية يحصل عليها المريض بأسعار مخفضة، وبعض الخدمات كان يحصل عليها بالمجان لأن أعدادا كبيرة من المصريين تحت خط الفقر. واعتبرت القانون "صادماً للمرضى الذين ليس لديهم القدرة المالية، وحتى من لديهم القدرة المالية المتوسطة، فتكلفة العلاج ستكون مرتفعة بالنسبة اليهم، لذلك، فإن الأمر مخيف للغاية".

القانون إيجابي فهو يجذب مزيدا من المستثمرين المحليين والأجانب للدخول في هذا القطاع المهم والحيوي لصحة المواطن المصري في ضوء المعايير الدولية لتقديم الرعاية الصحية 

خالد الشافعي، خبير اقتصادي

وعبّر العديد من المصريين عن سخطهم من القانون ووصفوه بالمجحف وليس في صالح الفقراء ومحدودي ومتوسطي الدخل، واعترضوا على قانون كهذا، وعلى تطبيقه، على الرغم من تأكيدات وزارة الصحة عدم تأثر المرضى به. واعتبرت رمسيس هذا الطرح بالون اختبار للمواطنين بالموافقة أو الرفض.

وقالت: "من وجهة نظر الدولة، هذا حقها في خطوات تدر عائداً، إلا أن المستشفيات الخاصة القائمة مرتفعة الأسعار للغاية، ووفق القانون يُوضَع المواطن المريض أمام خيار عدم العلاج أو الموت". وطالبت الدولة بتوخي الحذر في النشاطات التي تتخارج منها ملكية الدولة، لأنه التخارجات تصل في بعض الأحيان إلى ما بين 30 و80 في المئة، وأيدت عدم تخارج الدولة من القطاع الصحي بنسبة كبيرة.

القانون "إيجابي ومهم" للقطاع الصحي

من جهته، وصف الخبير الاقتصادي خالد الشافعي القانون بـ"الإيجابي"، فهو "يجذب مزيدا من المستثمرين المحليين والأجانب للدخول في هذا القطاع المهم والحيوي لصحة المواطن المصري في ضوء المعايير الجديدة التي حددها صندوق النقد الدولي، والمعايير الدولية لتقديم الرعاية الصحية على مستوى العالم ككل. وهذا يشكل انطلاقة قوية وواعدة لتقديم خدمات صحية ممتازة، لأن البيروقراطية في مصر كانت تتصدر المشهد في كل المؤسسات الحكومية".

ويعتقد الشافعي أن الدولة ستتكفل تنظيم الفوارق المطلوبة والمتعلقة بالتأمين الصحي وتسديدها، "ففي ظل عدم توافر ضمانات ومعايير للشراكة بين القطاعين الخاص والحكومة، حتى بمعايير صندوق النقد، ستلتزم الحكومة تعويض الفروق الناتجة بمساهمة التأمين الصحي في تقديم الخدمات إلى المواطنين جميعاً".

font change

مقالات ذات صلة