البرلمان الأوروبي الجديد... هل يحارب الهجرة ويعزل القارة؟

يتكون البرلمان الأوروبي المنتهية ولايته من 705 نواب يمثلون 27 دولة، بعد خروج بريطانيا عام 2019

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد تقدم عرضا أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ

البرلمان الأوروبي الجديد... هل يحارب الهجرة ويعزل القارة؟

يمكن وصف البرلمان الأوروبي الذي سينبثق عن انتخابات 9 يونيو/حزيران بالأكثر يمينية في تاريخ الاتحاد منذ نشأته عام 1957، بسبب احتمال صعود أحزاب متطرفة تدعو إلى مزيد من الانعزالية القارية، والشعبوية السياسية والاقتصادية التجارية، والشوفينية الوطنية، وحتى العنصرية العرقية والثقافية. وهو تحول يخيف الأوروبيين أكثر من جيرانهم في جنوب البحر الأبيض المتوسط، بسبب مخاطر تشرذم المجتمع وانقسامه على نفسه، وانغلاقه في زمن التحديات الجيوستراتيجية والمناخية الكبيرة، وعدم القدرة على تدبيرها قاريا. وإذا كان الغضب من الحكومات الحالية، ومعاقبة سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وتنامي الفقر والصعوبات الاجتماعية، يفسر بعضا من أسباب الانعطاف يمينا، فإن المبالغة في تحميل الآخرين أسباب الأزمات المتلاحقة قد ينعكس سلبا على الاتحاد الأوروبي في علاقاته الخارجية.

سقوط التابوهات وبداية الخلافات

ما كان يُصنف بأنه تابوهات قبل جيل أو أكثر، أصبح اليوم خطابا متاحا ومباحا في الإعلام العمومي ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث يُسمح بالهجوم على لون وثقافة ومعتقدات جزء من مكون النسيج المجتمعي الأوروبي، واتهامه بدعم الإرهاب ومعاداة السامية، والانفصالية الثقافية والدينية، واحتراف العنف، وتجارة المخدرات، ونشر التطرف. ويتزعم حزب التجمع الوطني الفرنسي ( Rassemblement National) جوقة الداعين إلى إعادة (تسفير) بعض المهاجرين المغاربيين إلى بلادهم حتى لو ولدوا في أوروبا، ومنع استعمال اللغة العربية والدين في الفضاء العام، وتجريم ارتداء الملابس الإسلامية في المدارس الفرنسية، ومعاقبة المخالفين لقوانين الجمهورية المعتمدة على اللائكية. وهو تحذير موجه بالأساس إلى أبناء مهاجرين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

أحزاب الوسط والليبراليين واليمين التقليدي تمسكوا بـ"الاتحاد" كما هو، باعتبار أنه يضمن لأوروبا مناعتها الخارجية ضد تهديدات محتملة

ومن جهته، اعتبر حزب "البديل الألماني" (Alternative for Deutschland) على لسان زعيم الحزب ماكسيمليان في حوار مع "فايننشيال تايمز" أنه "من غير المعقول أن نعتبر كل من خدم في القوة النازية العسكرية الخاصة (SS) مجرم حرب". وهو التصريح الذي نقلته "لاريبوبليكا" الإيطالية، وأثار انشقاقا وخلافا وحتى صداما بين مكونات اليمين الأوروبي المتطرف، كان من نتائجه فك التحالف بين الحزبين اليمينيين الكبيرين في فرنسا وألمانيا، على خلفية قراءة متناقضة لتاريخ الحرب العالمية الثانية. وهي ممهدات أولية ومقدمة عثرات، على عدم قدرة البرلمان الأوروبي لاحقا، على صياغة تجانس في المواقف حول الماضي والحاضر والمستقبل الأوروبي.

الحكمة الإيطالية

وقال الخبير الإيطالي في الشؤون الأوروبية سالفاتوري فسالو، من معهد بولونيا: "إذا كان البعض يعتقد أن هذه الأحزاب تنتمي جميعها إلى العائلة السياسية نفسها... فإن الشروط غير مهيأة لإقامة منصة مشتركة في البرلمان الأوروبي". في إشارة إلى وجود خلافات عميقة بين ماري لوبان زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، ورئيسة حزب "فراتيلي دي إيطاليا" جورجيا ميلوني، التي تسعى إلى تجميع اليمين المعتدل داخل البرلمان المقبل بالتحالف مع أحزاب الوسط والليبراليين وحتى الاشتراكيين والخضر، وتعميق التعاون مع دول جنوب البحر الأبيض المتوسط، في مجالات مثل الهجرة والجريمة العابرة للحدود والإرهاب، وعدم عزل القارة الأوروبية عن مجالها الجغرافي والتاريخي والثقافي. وتوجد هوة كبيرة في تصورات الحزبين الإيطالي والفرنسي حول مستقبل العلاقة مع الجيران. وعلى عكس إيطاليا وألمانيا وأسبانيا وهولندا وحتى بولندا والمجر والدنمارك، كان خطاب اليمين المتطرف في باريس أكثر إيلاما وشراسة في معاداة الآخر (غير الأوروبي) والتخويف منه، والتلويح بإعادة تهجيره. وظهر واضحا عدم تجانس المواقف السياسية والاستراتيجية حول أكثر من ملف وقضية، من الحرب الروسية الأوكرانية، إلى كيفية التعامل الاقتصادي التجاري مع الصين، مرورا بكلفة تمويل نفقات حلف شمال الأطلسي، والصعوبات الاقتصادية، وثقل المديونية، وتحديات التغيرات المناخية والزراعية، والانتقال الطاقي، وصولا إلى نزاعات وحروب الشرق الأوسط، واستعمال الذكاء الاصطناعي.

 أي "اتحاد" يريده الأوروبيون؟

خلال الحملة الانتخابية طُرحت ثلاثة سيناريوهات، واحدة تقدمية اشتراكية ديمقراطية تدعو إلى نوع من الفيدرالية التي تذوب فيها سيادة الدول القطرية، وتحرير التنقل والتجارة وإلغاء الحدود، باعتماد صيغة "اتحاد الشعوب الأوروبية على غرار التجربة الأميركية". في المقابل دافع التصور اليميني المتشدد من أجل تعاون أوروبي محدود، يحفظ سيادة مطلقة للدول وهويتها الخاصة، مع إقامة حدود بينها لمراقبة تنقل المهاجرين. على أن تكون لأوروبا حدود مع الخارج، وحدود في الداخل، كلها لتعقب المتسللين.

أحزاب الوسط والليبراليون واليمين التقليدي تمسكوا بـ"الاتحاد" كما هو، باعتبار أنه يضمن لأوروبا مناعتها الخارجية ضد تهديدات محتملة (التوجس من روسيا وبعض الدول المارقة في الجنوب والشرق حسب تعبيرهم). رئيس فريق التجمع الوطني الفرنسي غوردن بارديلا قال: "إن الاتحاد الأوروبي هو الكيان الأضعف في مجموع الدول المتقدمة". ودعا إلى "التخلي عن غاز شمال أفريقيا وروسيا، ورفع الرسوم على الواردات الزراعية المغربية، وإعادة توطين الصناعات (السيارات)، ومعاودة النظر في الاتفاقات التجارية مع دول أميركا اللاتينية، والتضييق على الشركات الصينية في القوانين القادمة، وحصر عقود العمل والمشاريع والأشغال الكبرى (في تنفيذها) على الشركات الأوروبية وحدها".

يتكون البرلمان الأوروبي المنتهية ولايته من 705 نواب يمثلون 27 دولة، بعد خروج بريطانيا عام 2019

هذه المواقف المتطرفة والمخالفة للتوجهات الرسمية الأوروبية، التي قد تكون قريبة من تصورات محلية لحزب "الحرية" الذي يقوده جيرت فيلديرز في هولندا، وحزب "فوكس" المتطرف في أسبانيا، وأحزاب مشابهة في الدنمارك، تعكس بعضا من الاهتمامات المقبلة للمكونات المتشددة داخل البرلمان الأوروبي الجديد (الذي زادت مقاعده إلى 720). هناك اليوم خلافات عميقة بين الأحزاب الأوروبية حول الصيغة الأفضل لوضع الاتحاد الأوروبي الذي انتقل من 6 دول إلى 27 دولة، وربما يتجاوز 30 دولة نهاية العقد الحالي. وبعدما كان مجرد تكتل اقتصادي وسوق أوروبية مشتركة تتعاون في مجال الصلب والحديد وحرية التجارة والتنقل، أصبح القوة الاقتصادية الثانية في التأثير بعد الولايات المتحدة الأميركية بناتج إجمالي يقارب 20 تريليون دولار.

اختصاصات البرلمان

يتكون البرلمان الأوروبي المنتهية ولايته من 705 نواب يمثلون 27 دولة، بعد خروج بريطانيا عام 2019، وهي أول انتخابات دون مشاركة المملكة المتحدة. تملك ألمانيا القوة الاقتصادية والديموغرافية الأولى بـ96 مقعدا، تليها فرنسا 81 مقعدا، وإيطاليا 76 مقعدا، وأسبانيا رابعة، ثم بقية الدول الأقل تأثيرا، حسب الناتج الإجمالي وعدد السكان.

ويقود "الحزب الشعبي الأوروبي" الأغلبية البرلمانية بـ178 مقعدا، متبوعا بـ"التحالف التقدمي الاشتراكي الديمقراطي" 140 مقعدا، ثم مجموعة "التجديد" (Renew) التابعة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون 102 مقعد، و"تحالف الخضر الحر الأوروبي" 72 مقعدا، و"المحافظين" 69 مقعدا، و"تحالف هوية وديمقراطية" 58 مقعدا، ثم اليسار 37 مقعدا.

وهذه التركيبة السياسية الحزبية الحالية مرشحة للتغيير بصعود أحزاب يمينية أكثر تطرفا وأقل لباقة وخبرة وإدراكا للتحولات الدولية الجديدة. لكن كلمتها ستكون مؤثرة في قرارات البرلمان في ستراسبورغ في مجال الإنفاق المالي والرقابة على عمل المجلس الأوروبي، وانتخاب رئيسة المفوضية الأوروبية في بروكسل، المرشح تجديدها، وزيرة الدفاع الألمانية السابقة أورسولا فون ديرلاين الأكثر حظا لولاية جديدة.

استقبل الاتحاد الأوروبي 4.3 مليون لاجئ من أوكرانيا عام 2023، كما استقبل 2.3 مليون مهاجر من خارج أوروبا 

ومن المرجح أن تكون مواضيع الهجرة والطاقة والحدود والتنقل والبيئة من المجالات الأكثر جدلا وانقساما بين البرلمانيين الجدد الأقل خبرة، وبما أن البرلمان لا يملك صلاحيات واسعة في تشريع القوانين بل فقط المصادقة عليها في غالب الأحيان، فإن المبادرة ستظل بيد المفوضية الأوروبية، وهي المؤسسة المعنية بسن القوانين والسياسات العمومية الداخلية، والعلاقات مع الشركاء الخارجيين.

رويترز
مهاجرون غير قانونيين في قارب مطاطي عبر القنال الإنكليزي متجهين إلى دوفر على الساحل الجنوبي

وسيكون البرلمان ساحة لإبداء المواقف من قضايا دولية أو إقليمية أو مناخية أو اقتصادية كيفما كانت طبيعتها، حسب قناعات كل كتلة. لكن هذه الأفكار والخطابات قد لا تكون هي نفسها الصادرة من بروكسل، مما يجعل البرلمان الذي يمثل 400 مليون أوروبي يكتفي بدور التصويت وإبداء الرأي الاستشاري، ويبقى المجلس الأوروبي غير ملزم بالأخذ بها، بما في ذلك القرارات في السياسة الخارجية التي تظل من اختصاص المفوضية الأوروبية في بروكسل.

الهجرة الموضوع الساخن أوروبيا

 استقبل الاتحاد الأوروبي 4.3 مليون لاجئ من أوكرانيا عام 2023، كما استقبل 2.3 مليون مهاجر من خارج أوروبا حسب موقع "أوروباست" (Eurosat). ومن المرجح أن يزيد العدد عام 2024 بسبب الحروب والنزاعات والجفاف والانقلابات العسكرية والصعوبات المعيشية، في بعض دول الساحل وشرق أفريقيا والشرق الأوسط. وحصل العام الماضي مليون شخص على الجنسية الأوروبية يتقدمهم المغاربة والسوريون والألبان. وهناك مخاوف من أن تؤدي عودة الرئيس دونالد ترمب إلى واشنطن، في تغيير خريطة الهجرة من أميركا اللاتينية صوب أسبانيا. كما يحتمل زيادة عدد الفلسطينيين النازحين بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة.

وسُجل ارتفاع في معدلات الهجرة السرية الأفريقية بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، خاصة عبر تونس وليبيا، بنسبة 40 في المئة، بسبب النزاعات والأزمات الأمنية والاجتماعية في دول جنوب الصحراء. وفي المقابل غادر الاتحاد 1.2 مليون شخص بعضهم فضل الاستقرار في دول الخليج مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين، بسبب زيادة الطلب على الكفاءات العربية والأوروبية.

خلال العام الماضي بلغت المبادلات التجارية بين الاتحاد الأوروبي ودول المغرب العربي الثلاث قرابة 134 مليار يورو، جاء المغرب في المرتبة الأولى بمبادلات بلغت 56 مليار يورو، ثم الجزائر ثانية بـ50.3 مليار يورو، وتونس ثالثة بنحو 27 مليار يورو. واستفادت دول "الاتحاد" من تجارتها المغاربية لتحسين وضعية ميزانها التجاري الذي حقق فائضا إجماليا بقيمة 103 مليارات يورو، بعد أن كان قد سجل عجزا مع بقية العالم قدر بنحو 436 مليار يورو عام 2022. واستعاد "الاتحاد" وضعه التجاري لما قبل الجائحة عام 2019.

font change

مقالات ذات صلة