التسوية المؤجلة

انهيار الاتحاد السوفياتي تسبب في مزيد من الفوضى وعرقلة الوصول إلى حلول للنزاعات في العالم

التسوية المؤجلة

في التاريخ الحديث، يمكن القول إن أغلب الحروب والصراعات الكبرى تنتهي بالوصول إلى اتفاقات وتسويات، فرغم التطور التكنولوجي الكبير والأسلحة الفتاكة التي تستخدم في كثير من الحروب والتي تتسبب في فقدان حياة ملايين البشر إضافة إلى الدمار العمراني الذي تلحقه والدمار المجتمعي الأخطر، تنتهي الحروب بانتصار فريق على آخر أو دولة على أخرى، أو بالوصول إلى طريق مسدود. بمعنى أن الحرب تصبح غاية وليست وسيلة، إلا أنه وعلى الرغم من أشكال هذه الحروب ونهاياتها فإن المصير المحتم لها هو جلوس المتحاربين إلى طاولة مستديرة والتوقيع على اتفاقات سلام أو تسويات أو حتى وثيقة استسلام، فالحرب مهما اشتدت لا بد في النهاية من جلوس من نجا منها إلى الطاولة.

من معاهدة وستفاليا عام 1648، إلى مؤتمر فيينا عام 1814-1815 الذي أنهى الحروب الفرنسية وأعاد رسم خارطة أوروبا السياسية (والذي شاركت فيه فرنسا رغم هزيمتها)، مرورا بمعاهدة فرساي التي اختتمت الحرب العالمية الأولى، وصولا إلى اتفاق يالطا الذي وضع أسسا لإنشاء الأمم المتحدة عام 1945، كانت الدول المتحاربة تنهي حروبها وتجلس إلى الطاولة لتوقع على اتفاق ما بعد الحرب، وشكل العملية السلمية، وتوزيع المغانم وتقاسم النفوذ وتنظيم الخلافات.

انتهت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي دون الجلوس إلى الطاولة، اختفى أحد الطرفين المتحاربين مع انهيار الاتحاد السوفياتي، فلم يجد الطرف الآخر من يجلس معه، أو ظن أن الأمر انتهى عند تلك اللحظة.

عاش العالم سنوات مع ما يعرف بالنظام الأحادي القطبية، حيث باتت الولايات المتحدة تملك النفوذ الأكبر والحضور السياسي الفاعل الأوسع عالميا، لكن الأمر لم يستمر طويلا حتى بدأت "المنغصات" تظهر، روسيا التي انشغلت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بترتيب بيتها الداخلي فانحسر دورها لسنوات، عادت وظهرت كقوة لا يستهان بها في العالم، فزمن الأحادية القطبية لم يرض الدب الروسي، ومع ما يملكه من قوة عسكرية وحضور في أكثر من مكان، ومع تزايد الاعتماد على روسيا خصوصا في مجال الطاقة ما منحها قوة اقتصادية. نجحت روسيا في إعادة فرض نفسها بقوة على خريطة النفوذ السياسي العالمي، وإن كانت روسيا لا تقيم وزنا كبيرا للقانون الدولي، إلا أن الهاجس الأكبر الذي يحكم تصورات زعيمها فلاديمير بوتين هو العودة إلى ما قبل لحظة الانهيار تلك، أيا كانت كلفة هذه العودة على روسيا نفسها، والتي ازداد وضعها الاقتصادي سوءا بعد غزوها لأوكرانيا وقبلها ضمها لجزر القرم.

انهيار الاتحاد السوفياتي دون توقيع اتفاق، وترك آلية اتخاذ القرارات في مجلس الأمن على حالها، تسبب في مزيد من الفوضى وعرقلة الوصول إلى حلول للنزاعات في العالم

وفي الوقت الذي لجأت فيه روسيا إلى سياسة المواجهة مع الغرب، واعتمدت على الخيار العسكري لإعادة فرض تموضعها في أكثر من مكان في العالم، كانت الصين، التي تعارض بدورها مبدأ التفرد الذي تبنته الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مقارباتها للقضايا الدولية، تتفادى المواجهة مع الولايات المتحدة دون أن تقلل من حدة المنافسة معها.

في لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت الصين منشغلة بعملية التحول الاقتصادي التي قادها الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ، حيث نقل الصين من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، ولهذا الأمر يعزي الكثيرون سبب تبوأ الصين مكانتها الحالية.

هذه المكانة الاقتصادية كانت سلاح الصين غير المعلن لنشر نفوذها في كثير من دول العالم، ودون أن تدخل في مواجهات عسكرية تمكنت الصين من التمدد فباتت دول كثيرة في العالم تعتمد بشكل كبير اقتصاديا على ما تنتجه الصين.

وقد يكون من المفيد هنا التأمل قليلا في الإعلان عن توصل أطباء صينيين إلى علاج مرض السكري باستخدام العلاج بالخلايا الجذعية لأول مرة في العالم، مقابل اعتماد روسيا على المسيرات الإيرانية الصنع بشكل كبير في حربها ضد أوكرانيا.

انهيار الاتحاد السوفياتي دون توقيع اتفاق، وترك آلية اتخاذ القرارات في مجلس الأمن على حالها، تسبب في مزيد من الفوضى وعرقلة الوصول إلى حلول للنزاعات في العالم، وما شهدناه في فلسطين منذ أكثر من 70 عاما وفي سوريا منذ أكثر من 13 عاما من بين نتائج هذه الفوضى.

اليوم توازن بعض الدول العربية من علاقاتها مع "الأقطاب" الثلاثة، دون إغفال أن الولايات المتحدة هي القوة الأقوى حتى الآن، وقد تبقى. رغم ما يتركه التنافس من انعكاسات على المنطقة، ورغم ميل بعض السياسيين الأميركيين للانسحاب من المنطقة. ولكن يبقى السؤال: هل من إمكانية للتوصل إلى حلول دائمة لنزاعات المنطقة الكثيرة قبل أن يتوصل المتنافسون الثلاثة إلى تفاهم ما؟ أم إننا سنبقى ندور في حلقة الهدن المؤقتة؟

font change