شواهد عدة تدعو إلى إعادة النظر في بعض من وصفوا تاريخيا بأنهم علماء آثار، وهي شواهد تؤكد أنهم كانوا ضمن الخطة السياسية الكبرى في المنطقة العربية، وفي كل مرة أبحث فيها عن بعض تلك الأسماء، أجد تشابكا مع مشاركتهم في الجهود الاستعمارية، خاصة في القرن العشرين، حيث تتشابك التخيلات الأثرية مع المنافسات والصراعات الاستعمارية، وقد تجلى ذلك أكثر ما تجلى في فلسطين، بوصفها إرثا محوريا في الشرق الأوسط، ثم في تقرير مصير بلاد الشام، وبلاد الرافدين، ومصر، وجزيرة العرب.
في مطلع القرن العشرين كان علم الآثار بمثابة تمويه مناسب للتجسس والمراقبة والاستطلاع، وخصوصا لرسم خرائط المنطقة العربية، وبالتالي كان استخدام علماء الآثار من جنسيات مختلفة فكرة جيدة لتقديم المشورة لحكومات بلدانهم خلال الحرب العالمية الأولى، لأن غالبيتهم يجيدون رسم الخرائط الدقيقة، وهذا ما وسع الطموحات الاستعمارية، بإنشاء مؤسسات إعلامية وثقافية تدعم علم الآثار في الشرق، للوصول إلى القطع الأثرية بعد نهاية الإمبراطورية العثمانية.
في هذا المشهد نلاحظ كيف كُلّف عالم الآثار ديفيد جورج هوغارث عام 1915، إجراء مسح في المنطقة العربية من أجل رسم الخرائط الأثرية، وكان هذا الرسم غطاء مثاليا للتجسس، ولم يشك أحد حينها، بعدما تم في منتدى ببريطانيا ربط التكليف برئيس الأساقفة في يورك، ليباركه، فأصبح غطاء مثاليا للتجسس بالتواطؤ بين المؤسسة الدينية الإنكليزية، والوطنية والعلم، ودور إنكلترا كبلد استعماري عالمي منافس.
في مطلع القرن العشرين كان علم الآثار بمثابة تمويه مناسب للتجسس والمراقبة والاستطلاع، وخصوصا لرسم خرائط المنطقة العربية
هذا ويشارك ديفيد جورج هوغارث في هذه المساعي، الدبلوماسي والضابط والكاتب توماس لورنس، الشهير بـ"لورنس العرب"، فهو عالم آثار أيضا، مارس الحفر عمليا في سوريا، ودرس اللغة العربية في جبل لبنان، وأكمل مسيرة الحفر في مقبرة طرخان المصرية، وسيرته طويلة في جزيرة العرب عسكريا وسياسيا والأهم آثاريا، فكان يرسل التقارير من مصر وسوريا وأفسس، بالإضافة إلى الاتصالات الشخصية، فصنع الرسومات التخطيطية مع التصوير الفوتوغرافي بسهولة وأمان... وأنشطة أخرى ساعدته على النصر، ولديه قول مشهور: "المعارك الكبرى تدور في طيات الخرائط الطوبوغرافية".
عمله المسحي ضمن فريق هوغارث في سيناء، وعمله مع الاستخبارات العسكرية في المكتب العربي، وارتباطه بعلم الآثار في الشرق الأوسط، دفعته إلى توظيف ذلك في الحرب وتكليفه مهمته المعروفة، مستخدما مهاراته الأثرية وخبرته في المواقع والمناظر الطبيعية التي اكتسبها خلال سنوات المسح والتنقيب، والتصوير الفوتوغرافي أثناء الحفر، وسيرته الطويلة في جزيرة العرب عسكريا وسياسيا والأهم آثاريا وأنشطة أخرى، ساعدته على تحقيق أهدافه.
وهناك عالمة الآثار كاثلين ماري كينيون، التي قادت فريق التنقيب في تل السلطان بأريحا والقدس من 1961 إلى عام 1967، والمعروف عنها تركيزها على "مدينة داود"، وكانت على يقين بأن هذه المواقع مرتبطة بسرد العهد القديم، خاصة أن والدها كان مديرا للمتحف البريطاني وعالما في الكتاب المقدس ومتدربا في الجيش. وقد دربها على رسم القطع في المتحف منذ صغرها، وتبيّن التقارير التي كانت ترسلها كينيون من القدس إلى لندن، شدة تركيزها على دراسة الأرض المقدسة، فمنذ شبابها وحفرها الجدار اليهودي في مدينة ليستر بإنكلترا، رشحت للتنقيب في مدينة القدس، وخلال العمل كانت على ثقة كاملة أن المواقع التي تقوم بتنقيبها ترتبط بالعهد القديم، فدعمت مدرسة الآثار الكتابية إن صح القول، أو الآثار الدينية، من أجل استخراج أي دليل على أن الأرض ملك لليهود، ومع ذلك لم يتمكنوا كعلماء آثار، من تقديم أي تفسير أو دليل يربط التوراتيين بالأرض مع خصومهم العرب.
تبيّن التقارير التي كانت ترسلها كينيون من القدس إلى لندن، شدة تركيزها على دراسة الأرض المقدسة
وهناك زوج أغاثا كريستي، عالم الآثار ماكس مالون، الذي حفر في الموصل بالعراق، أي نينوى، حيث مرقد مقام النبي يونس، ليكتشف أسفله كنيسة النبي يونان، وأخذ يحفر للأسفل لعله يجد معبدا يهوديا أو كتابات، لكنه وجد معبدا آشوريا.
هكذا ساهم الآثاريون في رسم خريطة فلسطين، مع اقتراح تقسيم الأرض بين السكان العرب واليهود. وحددوا حدودها مع الانتداب الفرنسي في لبنان، وابتكروا بعد ذلك تشريعا للآثار والحفاظ عليها.