3 تجارب روائية سعودية جديدة
محاولات التجديد بين الواقعي والفانتازي
3 تجارب روائية سعودية جديدة
قدمت الرواية السعودية في السنوات القليلة الأخيرة عددا من التجارب المختلفة والمتميزة، دارت بين العودة الى الماضي ومساءلته، ومراجعة الحاضر وتأمله، وصولا إلى محاولة استشراف المستقبل وما يمكن أن يكون عليه الناس فيه. هنا نلقي نظرة على بعض الأقلام الجديدة الواعدة في المملكة في مجال الرواية، وهي لا تختصر في طبيعة الحال جميع الأصوات الروائية التي تبحث عن مكان لها في المشهد الأدبي السعودي.
البروليتاري
يعود الكاتب معتز البدر في "البروليتاري" (رشم للنشر والتوزيع، 2023) إلى الماضي للحديث عن طبقات مختلفة من المجتمع السعودي وكيف كانت تقوم العلاقات بينها، وكيف تحوّلت وتغيرت بإلغاء قانون "الرق". وإذ يقدم رؤية للماضي، لا يسائل المجتمع ولا يحاكمه بقدر ما يقدم صورة مغايرة له عن السائد، فقد تغيّرت بكل تأكيد صورة المجتمع السعودي منذ تسعينات القرن الماضي، وكان من الشائع والمعتاد في الحديث عن الماضي أنه كان مليئا بالتحديات، لا سيما في ما يتعلق بحقوق المرأة ودورها وعلاقتها بالرجل. لذلك يقدم البدر روايته ببطلة الرواية، الخنساء، وهي منذ اختيار ذلك الاسم الذي يذكرنا بواحدة من أهم شاعرات الجاهلية والإسلام، يعكس موقفا مختلفا من المرأة. ورغم أن المشهد الأول في الرواية يشير إلى سيطرة الرجل/الأخ وقمعه لأخته حينما اكتشف أنها تراسل أحدهم، إلا أن الفصول التالية تكشف لنا وجها آخر لأب متعلم يعرف قدر ابنته ويسعى للحفاظ عليها، ويحميها من سيطرة تلك الأفكار، بل ويعدها بالسفر لإكمال دراستها في القاهرة.
لا يسائل معتز البدر المجتمع ولا يحاكمه بقدر ما يقدم صورة مغايرة له عن السائد
يظهر التحديد الزماني في الرواية في الفصول التالية التي تروي حكاية معتوق العبد في بلاط سيده الذي يحمل الاسم وصفته. فعلى الرغم من أن سيده يفكر في إعتاقه بالفعل، إلا أن قرارا سياديا يصدر بانتهاء الرق والعبودية في السعودية، وبذلك يخرج معتوق إلى فضاء الحرية، فيفاجأ بأنه لا يعرف كيف يتصرف فيه (يشير الى القرار الملكي للملك فيصل بن عبد العزيز الصادر في نوفمبر 1962 بإلغاء الرق تماما)، كما سيظهر في ما بعد بشكل عابر حينما يشير الكاتب إلى استماع الخنساء وأبيها إلى خطابات جمال عبد الناصر في الراديو والحديث عن الوحدة العربية.
وإذا كان صراع معتوق مع المجتمع بعدما تحرر، وصراع الخنساء مع المجتمع بمساندة والدها وسعيها للتعرف الى العالم من خلال قراءتها وكتابتها، إلا أن ثمة بطلا ثالثا للرواية يمثله ذلك "البروليتاري" البدوي مانع الذي تنشأ علاقة الحب بينه وبين البنت الحضرية/الأريستوقراطية في ذلك الوقت، وتدور بينهما رسائل الغرام، لكنها تفاجأ في النهاية ليس بأنه بدوي فحسب بل أنه يعمل في محطة وقود ليكسب قوت يومه، أي أنه ينتمي إلى طبقة "البروليتاريا" التي قرأت عنها. وعلى الرغم من أن ذلك لم يثنها عن علاقتها به، إلا أن ارتباطهما لا يكتمل، ويبدو ذلك الصراع المكتوم منذ ذلك الوقت بين فئتين من المجتمع يرى كل واحدٍ منهما لنفسه الحق في الحياة والعدالة والكرامة، بين مجتمع البدو الذي يرى نفسه الأصل والأساس ويعتز بقيمه رغم كل ما يحدث حوله من تطور، وبين الحضر الذين استطاعوا أن يلحقوا بركب المدنية رغم كونهم متعثرين بعادات وتقاليد قديمة.
قطرة كحول
منذ المشهد الأول يدرك قارئ رواية "قطرة كحول" (كلمات، 2022) للروائي عبد العزيز الصقعبي أنه إزاء رواية مختلفة، تقدم عالما واقعيا من خلال راوٍ خارجي غير عليم يتساءل عما يدور حوله، ثم نكتشف أن الرواية تدور حول رجلٍ غائب وشكوك حول جريمة قتل، وعائلة بسيطة تعيش في قرية قرب العاصمة، وتقترب منهم المدنية على استحياء، ينتقل بعض أفراد العائلة وأقربائهم للعيش في الرياض ويتمسك البعض الآخر بالبقاء في القرية، لكن فكرة اختفاء الأخ محسن في البداية تقلق هذه العائلة وتقض مضاجعها، وتسعى للبحث عنه دون جدوى، حتى يطويه النسيان، ولكن السنوات تمر، وتحضر حكايته فجأة بعد نحو أربعين عاما ماثلة أمام أخيه الأصغر حمود بافتراض مزعج، هو أنه لم يختف وإنما قتل لتنقلب حياته رأسا على عقب ويبدأ في مراجعة ماضيه وعلاقات أخيه، وما الذي يمكن أن يكون قاده إلى هذا المصير.
استطاع عبد العزيز الصقعبي أن يقدم رؤية بانورامية للمجتمع السعودي بطبقات مختلفة
تبدو الرواية في جانبٍ منها ذات طابع بوليسي مشوّق، إذ تبحث عن رجلٍ غائب وجريمة قتل، لكن الكاتب ظل حريصا على أن يجمع في الوقت نفسه بين ذلك الخيط الأساس وبين العرض الثقافي والاجتماعي للمجتمع السعودي في تلك الفترة الزمنية التي تمتد منذ ما قبل وصول التكنولوجيا الحديثة، ليعرض بشكلٍ مجمل كيف تعاملت العائلات مع ظهور الراديو والتلفزيون في الستينات بداية الأمر وصولا إلى وقتنا الراهن، وكيف كان تعامل المجتمع المحافظ المنغلق مع وسائل الترفيه ومع كل ما هو غريب ووافد عليه، بدءا بالكتب والروايات مرورا بالموسيقى والغناء وصولا إلى الخمر، وكيف كان يتم التحايل على كل أنواع الرقابة المجتمعية سواء لقراءة الكتب والاطلاع على الأفكار الوافدة من مصر وسوريا وغيرها في ذلك الوقت، أو حتى جلسات السمر التي يتبادل فيها الشباب الغناء ويتعاطون الخمر خفية بعيدا عن آبائهم، حتى يصل بهم الحال إلى أن يختفي أحد أفرادهم فلا يسألون عنه، أو يكتفون بسؤال عابر خشية أن يعرفوا حقيقة تورطه في المنكرات سواء أكانت سياسية أم ثقافية أم دينية.
هكذا استطاع عبد العزيز الصقعبي أن يقدم رؤية بانورامية للمجتمع السعودي بطبقات مختلفة، وأن ينتقل بين الزمان والأماكن بسلاسة من الرياض إلى مكة المكرمة، كل ذلك وهو يشد القارئ إلى معرفة تفاصيل حكاية محسن الغائب وعلاقاته، مستعينا بوسائل التواصل الحديثة، حتى يعرف حقيقة أمره، ذلك الذي لا يتكشف لنا إلا في الفصل الأخير من الرواية، وحينها فقط يهدأ حمود لوصوله إلى الحقيقة، بعدما بذل كل مجهوده للوصول إليها، وكانت رحلة لكي يتعرف إلى أصدقاء ومعارف أخيه الغائب، فيتغير ويخرج عن نمط حياته الهادئ الرتيب، بل ويقرر أن يكون رجلا شجاعا يسعى جاهدا لنشر تلك الحقيقة مهما كلفه ذلك من صعوبات.
رف اليوم
تنتقل بنا نجوى العتيبي في روايتها "رف اليوم" (أثر، 2022) في الزمان والمكان، لنجد أنفسنا في عالم المستقبل، ومن خلال سرد فانتازي ترسم ذلك العالم الذي تسيطر فيه الآت على الإنسان، وتغفل ذكر المكان، وكأنها تذكرنا بروايات الديستوبيا الأجنبية، 1984لجورج أورويل ومثيلاتها، نتعرف عندها الى أبطال الرواية الذين يحملون أرقاما بدل الأسماء (9ك، و35م) ويبحثون عن الأصدقاء في المحلات والمتاجر عوضا عن الأصدقاء الحقيقيين، فقد تغيّر العالم، وأصبح من الممكن أن تشتري صديقا وتستبدل به آخر، كما تبحث الحكومة كذلك عن خطة جديدة لإنتاج الآباء والأمهات، كما يتم إنتاج نباتات خضراء مذهلة يتم التحكم في أشكالها وصفاتها وفقا لطلبات الزبائن، وتتم معالجة الأفكار والمواقف من خلال وحدات خاصة، "وحدة نقاط الضبط المنهجي" و"وحدة إعادة تنظيم العقول". ويبدو الفرد/ البطل مستسلما تماما لما يدور حوله، فلا مجال ولا محاولات للمقاومة بل عرض مستمر لتلك الحالة وذلك العالم الغريب.
تستفيد العتيبي من ثوة التكنولوجيا، لترسم عالم المستقبل الشديد الغرابة والسوداوية
ورغم ما يبدو من رفاهية وتسخير العديد من أساليب المتعة للأفراد في ذلك العالم، إلا أن البطل يصرح في كل فصل بأن مزاجه سيء ويسوء أكثر مع كل خطوة وموقف يمر به، إذ يبدو أن ذلك العالم الآلي/ التكنولوجي يسلب الإنسان إنسانيته حتى لو أصبح محاطا بكل مظاهر الرفاهية والتقدم، وهو ما يتسلل إلى القارئ بهدوء. ومن خلال تلك المواقف والأحداث التي يمر بها البطل ويتحدث عنها على امتداد الرواية، التي يبدو أن الكاتبة حرصت على أن تأتي موجزة ومكثفة قدر الإمكان في 111صفحة، واستطاعت في الوقت نفسه أن تقدم عالما يبدو قاتما ومقبضا، لا سيما مع البطل الذي أخذ يبحث عن الحب دون جدوى.
تستفيد العتيبي من ثوة التكنولوجيا، ومن تطورات مثل الذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي وغيرها، لترسم عالم المستقبل الشديد الغرابة والسوداوية. يكتشف بطل الرواية بعد فترة من البحث والجهد أنه أصبح نصف آلة تعمل وفقا للشرائح الإلكترونية التي أصبحت مغروسة فيه، وأنه لم يعد يتحكم في مشاعره ولا أحاسيسه بل يكاد يكون فقدها بالكامل، وبالتالي فقد إنسانيته. ويبدأ في محاولات عبثية للعودة إلى ماضيه الذي سمع عنه والذي كان فيه تلك المشاعر المفقودة. ولكن حتى ذلك الطريق لا يستقيم له، إذ تحضر مفاجآت وعواقب استخدام التكنولوجيا وسعي الدول الأخرى للسيطرة عليهم من خلالها.