ثم أن اختيار مكة كموقع لخاتمة الرسائل الإلهية مثّل تحديا كبيرا للعرب الذين سكنوها، حيث كانت تعتبر مركزا تجاريا ودينيا مهما في شبه الجزيرة العربية، وكانت العرب تعتمد على التجارة والعبادة في الكعبة كمصدر رئيس للدخل والاستقرار. ومع ظهور الإسلام واجه أهل مكة تحديا كبيرا في تقبل الرسالة الجديدة والتحول من الوثنية إلى التوحيد.
ولطالما واجهت مكة عبر تاريخها العديد من الصراعات، لكنها انتصرت في نهاية المطاف وغدت مركزا روحيا ودينيا للمسلمين، وليست واقعة الفيل إلا من تلك الشواهد على حماية الله بمعجزاته لهذه البقعة الأرضية المختارة، وما سورة الفيل القرآنية إلا عظة وعبرة شاهدة على تلك الحادثة.
وكذلك حادثة سرقة الحجر الأسود من قبل القرامطة في القرن العاشر الميلادي واحتفاظهم به لمدة 22 سنة، والتي أدّت إلى توقف فريضة الحج لفترة مؤقتة، ليعود الحجر الأسود في ما بعد إلى مكانه بفضل جهود المسلمين لإعادة الكعبة الى هيبتها ومكانتها وأهميتها وقدسيتها لديهم. إن تاريخ مكة المليء بالصراعات والانتصارات يعكس قوة الإيمان والتحديات التي واجهها المسلمون عبر العصور للحفاظ على قدسية هذا المكان.
مكة المكرمة هذه البقعة المقدسة التي يُختزن فيها تاريخ الإسلام بأعظم صوره، تجسد رمزا روحيا وتاريخيا يفوق التصور. قدسية هذا المكان ليست مجرد مسألة دينية بحتة، بل تمتد لتشمل أبعادا إنسانية واجتماعية وتاريخية متعددة تسبر أغوار هذا السر المقدس. ففي بداية الدعوة الإسلامية واجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه في مكة الكثير من العناء والمقاومة من قبل قريش. كان هذا التحدي بداية للصراع بين الوثنية والإسلام، إذ قدم المسلمون تضحيات كبيرة لنشر رسالة التوحيد والحفاظ عليها، وتجلت هذه التحديات في العديد من الأحداث مثل المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية للمسلمين، وتعذيبهم واضطهادهم.
وبسبب شدة ذلك الاضطهاد، قرر النبي الهجرة إلى المدينة المنورة، وهو الحدث الذي غير مسار التاريخ الإسلامي حيث أنها جاءت كخطوة استراتيجية لتجنب الصراع المباشر مع قريش في مكة، ولإنشاء مجتمع إسلامي قوي يستطيع الدفاع عن نفسه ونشر الدعوة بسلام. لم تكن الهجرة نهاية التحديات بل بداية لتحولات جذرية أدت إلى عودة المسلمين منتصرين إلى مكة بعد سنوات من الكفاح ليغدو فتح مكة –لاحقا- هو الحدث المحوري الذي أكد قدسيتها ومكانتها المركزية في الإسلام، ونقطة تحول كبرى حيث توافدت القبائل العربية إليها لإعلان إسلامها بعد رؤية قوة الإسلام وعدله.