نقرأ في نسخة مخطوطة من كتاب الكيمياء لخالد بن يزيد يروي فيها أنه كان يقرأ الكتب باليونانية، وأنه تعلم صنعة الكيمياء على راهب مسيحي يدعى مريانس التقاه في نواحي بيت المقدس واستقدمه إلى دمشق ليتعلم منه. وفي ذلك يقول: "قرأت كثيرا من كتبهم وفسرت كلام بعضهم ببعض، فتميزت ولم أجد سبيلا إلى فهم ما أشاروا إليه حتى أحوجني ذلك إلى الخروج إلى مريانس، رغبة فيها والتماسا لمعرفتها، فأتيته وكتمته نسبي، ولزمت خدمته، فلما رأى معرفتي وحسن أدبي، وأني أهل لكشف سره، كشفه إليّ بألفاظ بينة تقرب إلى الفهم حتى إذا فعل ذلك وأظهر لي معاني الصنعة.. وأُخبِر أني مسلم وأني ابن ملك العرب، وبان له أمري، فقال ما الذي حملك على هذا؟ فقلت رغبة في العلم. قال انصرف الآن فقد قضيت وطرك، فانصرفت..".
رؤى تعميمية
لنتجاوز هذا التفصيل في تاريخ حركة الترجمة العربية، ولنذهب إلى الرواية الأوسع انتشارا، والمقصود تلك التي تقول إن علوم اليونان نقلت إلى العربية من السريانية، وهي الرواية التي انتقدها قبل نحو عام البروفسور جورج صليبا في أحد برامج "البودكاست" السعودية الشهيرة، وجرَّت عليه سيلا من الانتقادات بزعم أنه يتبنى الفكر العروبي الذي ينفي تاريخ الأقوام الأخرى التي تشارك العرب سكناهم. وكما جرت العادة في مثل هذه المسائل المعرفية، تدخلت بعض الأوساط السياسية والحزبية المنتمية الى حركات قومية مستحدثة، وحولت المسألة إلى صراع سياسي حضاري بين "عرب غزاة جهلة"، و"سكان أصليين حضاريين" عانوا ولا يزالون يعانون من طمس تاريخهم الحقيقي.
تتغافل هذه الرؤى التعميمية عن أن جزءا مهما من أتباع الكنيستين، السريانية اليعقوبية، والسريانية النسطورية، وكذلك عن أن جزءا مهما من أتباع كنيسة الروم الأرثوذكس كانوا من عرب الشام والعراق الساكنين في هذين الإقليمين قبل الإسلام بقرون طويلة. وعلى عاتق هؤلاء قامت المحاولة الأولى لترجمة الكتاب المقدس إلى العربية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بحسب التواريخ السريانية التي ذكرت قصة البطريرك اليعقوبي المعاصر للفتوحات الإسلامية يوحنا أبي السدرات (توفي عام 648م) مع أمير حمص الصحابي عمير بن سعد الأنصاري.
وتؤكد تلك التواريخ أن من تولى ترجمة الكتاب المقدس هم مجموعة من الفقهاء العرب المتضلعين باللغتين السريانية والعربية من تنوخ وطيء وبني عقيل من أتباع الكنيسة السريانية. ولا نعلم عن أي لغة ترجموه، عن اليونانية أم عن السريانية؟ ففي رسالة البطريرك أبي السدرات إشارة إلى نسختين من الكتاب المقدس أحضرتا إلى الأمير عمير، واحدة يونانية والأخرى سريانية.
بختيشوع والبطريق
وإذا رجعنا إلى أصول المترجمين الأوائل في مطلع العصر العباسي فسنجدها تتوزع على منابت شتى، غالبيتهم الساحقة من المسيحيين، يعاقبة ونساطرة، وروم ملكيون، وأقلية منهم صابئة حرانيون. وكان أولئك المترجمون يعملون بمهنة الطب، ويشكلون عائلات متسلسلة يتوارث أبناؤها الطب والترجمة.
من أوائل المترجمين الأطباء جورجس بن جبرائيل وهو طبيب نسطوري من منطقة الأحواز عالج الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور (714- 775م) ونال حظوة كبيرة لديه. ووضعه ابن أبي أصيبعة في عداد الأطباء السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العبَّاس. ويقول إنه "أول من ابتدأ في نقل الكتب الطبية إلى اللسان العربي عندما استدعاه المنصور وكان كثير الإحسان إليه"، ولم يوضح ابن أبي أصيبعة من أي لغة نقل إلى العربية كتب الطب، ولكنه يقول في موضع آخر إنه ترك كناشا، أي كتابا مجموعا، نقله من السريانية إلى العربية حنين بن أسحق. وهذه الإشارة الأخيرة تدل على أنه لم يكن يجيد العربية بشكل يؤهله لنقل الكتب إليها. وقد كون جورجس هذا عائلة علمية اشتهر منها ابنه بختيشوع بن جورجس، وله من الكتب كناش مختصر بعنوان كتاب التَّذْكِرَة أَلفه لابنه جبرائيل بن بختيشوع، ولجبرائيل من الكتب "رسالة في المطعم والمشرب"، و"المدخل إلى صناعة المنطق"، و"كتاب الباه"، و"رسالة مختصرة في الطب"، و"كتاب في صنعة البخور" أَلفه للمأمون، ولجبرائيل ابن اسمه بختيشوع بن جبرائيل له كتب عدة في الطب، ومن هذه العائلة يوحنا بن بختيشوع. وعن هذا الأخير كتب ابن أبي أصيبعة "نقل كتبا كثيرة إلى السرياني، فأما إلى العربي فما عُرف بنقله شيء منها". وخلاصة القول إن هذه العائلة اشتهرت بمهنة الطب ولم تشتهر بنقل كتب العلوم، وكانت عربية أبنائها ضعيفة إلى درجة عدم القدرة على الترجمة أو التأليف بالعربية.