"كان" 77.. الأفضل يفوز مع "أنورا" و"كل ما نتخيّله نورا"

تكريم السينما المستقلة ومومباي كما لم نرها من قبل

AFP
AFP
المخرج الأميركي شون بيكر يقف مع الكأس بعد فوزه بالسعفة الذهبية عن فيلم "أنورا" خلال الحفل الختامي للدورة 77 لمهرجان كان السينمائي في 25 مايو 2024.

"كان" 77.. الأفضل يفوز مع "أنورا" و"كل ما نتخيّله نورا"

عرضت معظم الأفلام التي حصدت جوائز مهرجان "كان" السينمائي في دورته 77، خلال النصف الثاني من المهرجان، وكأنها كانت مفاجآت يختزنها واضعو البرنامج لجمهور المهرجان من المشاهدين والنقاد وصناع السينما.

اختيارات لجنة التحكيم التي ترأستها الأميركية غريتا غرويغ كانت لأفلام وأسماء لا يعد فوزها في ذاته مفاجأة، فبعد مشاهدة أفلام المسابقة الرسمية ليس هناك مجال كبير للخلاف على الاسم الأحق بـ "السعفة الذهبية" وقد نالها بالفعل. فالفائز الأكبر هو المخرج الأميركي شون بيكر وفيلمه "أنورا"، ليصبح بذلك أول مخرج أميركي يفوز بالسعفة الذهبية منذ تيرانس مالك وفيلمه "شجرة الحياة" عام 2011 عندما ترأس لجنة التحكيم مواطنه روبرت دي نيرو، وقبله مايكل مور عن فيلم "فهرنهايت911" عام 2004 وقدمت له الجائزة وقتها لجنة تحكيم يقودها كوينتن تارانتينو.

فيلم شون بيكر استحق الفوز، وربما هو الخيار الصحيح في العديد من السياقات. فهو الأفضل بجانب عمل المخرج البرتغالي ميغيل غوميز "الجولة الكبرى" الذي اختارت لجنة التحكيم منحه جائزة الإخراج. أما الفيلم الذي حصد "الجائزة الكبرى" (غراند بري) فهو فيلم الهندية بايال كاباديا الذي حمل اسم "كل ما نتخيله نورا". وهذه هي الأفلام الثلاثة التي يمكن تصورها تحوز تلك الجوائز فعلا.

 هذا التحكم المثير الذي يمتلكه بيكر، يكمن في تقديم سينما لا تسعى لتقديم سياحة سينمائية في الوحل

"أنورا"

"أنورا" هو الأفضل في مسيرة المخرج الرائع شون بيكر. كما أن فوزه يمثل تكريما حقيقيا للسينما الأميركية المستقلة، المصنوعة خارج نظام الأستوديوهات الكبرى وقبضتها التي تعرقل التجريب والمغامرات الفنية والخروج عن القوالب والقصص التقليدية، وهي في الوقت ذاته الأقرب للحالة الأميركية اليوم. إلا أنه بالرغم من كونها الأفضل والأكثر تمثيلا للحالة الفنية والإبداعية، فإن الأفلام المستقلة لا تحظى بالاعتراف والنجاح في الداخل الأميركي إلا بعد تتويجها بالجوائز خارج الحدود، وتحديدا في أوروبا التي يحمل الأميركيون لها تقديرا فنيا استثنائيا، وهذا ما حدث مع ستيفن سودريبرغ وفيلمه "جنس وأكاذيب وشريط فيديو"،والأخوين كوهِن وفيلمهما "بارتون فينك" وتارانتينو مع فيلمه "بالب فيكشن" في التسعينات، وقبلها أفلام مثل "سائق التاكسي" و"المحادثة" و"القيامة الآن" في سينما السبعينات.

فيلم بيكر ينطلق سريعا، ولا يضيع أي وقت قبل أن تظهر سينماه التي تفحص بشفافية الحلم الأميركي من المنطقة الأدنى وصولا إلى أعلى هرم السقوط.

المكان، هو حانة للرقص تفوح برائحة النشاط الجنسي التجاري الذي تتبعه أفلام بيكر. فيها نلتقي مباشرة شخصية أنورا، أو "آني" كما تسمي نفسها، وهي راقصة في هذه الحانة. منذ الدقائق الأولى لظهورها على الشاشة نرى أنفسنا أمام شخصية قوية ومسيطرة، تبدو هادئة لكنها لا تتردّد في إظهار شراستها إن جرى التعدي على حقها ومكانتها وأمانيها. أنورا هي واحدة من الشخصيات التي يضعها بيكر في مركز الأحداث في كل أفلامه السابقة: "صاروخ أحمر" و"مشروع فلوريدا" و"اليوسفي".

يبدأ التحول في شخصية أنورا أو آني، عندما تلتقي في إحدى الليالي شخصية إيفان زخاروف، وهو مراهق روسي ثري في مثل عمرها وقد يكون أصغر منها، وعلى عكس عملائها الآخرين، تبادله آني القبول وتواعده خارج أسوار العمل حتى تقع في حب هذا الروسي غير الناضج الذي يعيش في قصر فخم في ضواحي نيويورك. إيفان هو ابن واحد من فاحشي الثراء الروس، وتكفل له ثروة أبيه العيش في أعلى مستويات الرفاهية التي تجعله كأنه في إجازة أثناء رحلة دراسية في الولايات المتحدة.

في قرار مفاجئ، يتقدم إيفان للزواج منها ليفتح أمامها آفاقا لحياة كالأحلام. ولكن عندما يكتشف والدا إيفان الأمر، ينقلب كل شيء رأسا على عقب، وتبدأ الأحداث في التصاعد بوتيرة متسارعة. كل شيء يتغير تماما، ليتحول الفيلم من انفتاح على الأحلام إلى توتر وهلع مخيفين، ويرسم كل ما يحيط به طريقا إلى الهلاك.

في هذه النقطة، يتعمق الفيلم في استكشاف الصراع الطبقي ببراعة، حيث يتصادم الحلم الطموح مع الفوارق الاجتماعية الهائلة، ويتحول الأمل إلى مصدر تهديد للنفوس الطموحة التي وجدت فرصة للخروج من نفق مظلم.

REUTERS
فريق عمل فيلم "أنورا" في مهرجان كان السينمائي

تحمل الرحلة التي يرسمها لنا شون بيكر في هذا الفيلم مزيجا متماسكا وقويا من التجارب، يضحكك في مرات، ويكسرك في أخرى، يجعلك تبتسم في لحظة ويرعبك بعدها. هذا التحكم المثير الذي يمتلكه بيكر، يكمن في تقديم سينما لا تسعى لتقديم سياحة سينمائية في الوحل، بل في تقديم وجهة نظر مغايرة في مساحة لا تحب السينما الأميركية الخوض فيها، أي الطبقية في المناطق السفلية من المجتمع، والتي يغذي بها عواطفنا تجاه الشخصيات الخشنة من دون ابتذال، ويخلق من الأحداث دوامة يتصاعد زخمها ويرتفع إيقاعها ويزداد رعبها في كل لحظة.

 يجذبنا "كلّ ما نتخيله نورا" إلى التفاصيل اليومية لبطلاته الثلاث، وينفجر بمجرد أن تطفو تلك المشاعر المعقدة للشوق والوحدة وسط مومباي

"كل ما نتخيله نورا"

عمل آخر ربما لا يقل روعة عن "أنورا" الفائز بالسعفة الذهبية، وهو فيلم المخرجة الهندية بايال كاباديا "كل ما نتخيله نورا" الحائز على الجائزة الكبرى في المهرجان، وهي ثاني أهم جائزة في المسابقة الرئيسية.

هذا هو أول فيلم يختاره المهرجان من الهند للمشاركة في المسابقة الرسمية منذ 30 عاما. المفارقة هنا أن كاباديا، التي لم تقدم سوى فيلم طويل واحد قبل هذا، هي من غير المرغوب بهم في صناعة السينما الهندية نظرا لسينماها البعيدة عن صَخَب بوليوود.

EPA
المخرجة الهندية بايال كاباديا تحصل على جائزة "الجائزة الكبرى" عن فيلم "All We Imagine As Light" خلال الحفل الختامي للدورة 77 لمهرجان كان السينمائي في 25 مايو 2024

في "كل ما نتخيله نورا"، تقدم كاباديا سينما بعيدة تماما عن الشكل الهندي المعتاد، سينما تنتمي إلى روح دراما إدوارد يانغ والتماسك العفوي في أفلامه، مع لمحات من تجاوز الواقع المعتاد إلى الماورائية، كما في أعمال أبيشاتبونغ ويراسيثاكول، أو حتى في الاستعانة بمشاهد وثائقية لافتتاحية الفيلم كشانتال أكرمان. بادئة بتتابع يحمل رسائل النازحين من القرى إلى المدينة للعمل، نسمعها صوتيا بينما نشاهد لقطات من مدينة مومباي في ليلها الأزرق.

تنجح كاباديا في نقل الاتساع الضخم الذي يسم هذه المدينة الهائلة وفوضاها وتزاحمها بالسكان خلال تلك اللقطات الأولى، قبل أن تنقلنا من الواسع العام إلى الضيق المُركّز في دراما نتتبع خلالها ثلاث ممرضات جئن إلى مومباي من القرى المجاورة: برابها: المرأة الأكثر هدوءا واتزانا التي يشغل أفكارها زوجها الذي غادرها للعمل في ألمانيا دون أن يترك رسالة واحدة، وأنو: الممرضة الشابة التي تحمل سمات الحماسة في وقوعها بالحب الأول وتراسل خليلها طوال الوقت وتلتقيه بين الحين والآخر، وأخيرا بارفاتي: أكبرهن سنا، الأرملة المتقاعدة والحادة، شديدة البأس، لكنها تحمل روحا قوية ومساندة لكفاح تلك الفتاتين على طول الطريق.

لا تقع كاباديا في فخ تقديم ثلاثة خطوط للأحداث من خلال الشخصيات الثلاث كما نتوقع وكما يفعل معظم كتاب السيناريو والمخرجين، بل تسردها في توليفة واقعية حرة، وتنجح في ضبط إيقاع يتشعّب لكنه يظل متماسكا، دون أن تهمل الثراء السردي والبصري في التفاعل مع أصغر اللحظات وأدق الإيماءات.

EPA
فريق عمل فيلم "All We Imagine as Light" في مهرجان كان السينمائي

بهدوئه الحسي، يجذبنا "كل ما نتخيله نورا" إلى التفاصيل اليومية لبطلاته الثلاث، وينفجر بمجرد أن تطفو تلك المشاعر المعقدة للشوق والوحدة وسط مومباي التي لم تُصوَّر في السينما من قبل كما صورتها كاباديا هنا. وفي الثلث الأخير من الفيلم، يتخلى عن الطابع المديني ويشدّ الرحال إلى الريف، وما أن يفعل ذلك حتى يتحول هذا الواقعي الشعري، لينزلق بروعة إلى سحرية الذاكرة.

font change

مقالات ذات صلة