فشل السياسات الاقتصادية يزعزع حكم أردوغان

التضخم ابتلع زمن الأمجاد المالية... الليرة في الحضيض ولا جدوى من "الأرثوذكسية" النقدية

لوركا دوربينو
لوركا دوربينو

فشل السياسات الاقتصادية يزعزع حكم أردوغان

حثت آلام تركيا الاقتصادية الرئيس رجب طيب أردوغان في السنوات القليلة المنصرمة على إحداث تغييرات تعتبر مهمة، إلا أنها لم تكن كافية على الإطلاق للتعافي الاقتصادي، مما يثير الشك في ما إذا كان يشهد حاليا أواخر فترة حكمه المتقلب.

أردوغان، الذي وصل إلى الحكم عام 2002 بعدما حقق حزبه، "العدالة والتنمية"، فوزا كاسحا، وأصبح في العام التالي رئيسا للوزراء، حظي خلال العقد الأول من عهده بالكثير من المديح كقائد حكيم تمكن من إنعاش إقتصاد تركيا. وحقق البلد العابر للقارتين الأوروبية والآسيوية نسب نمو قوية خلال تلك الفترة، مع توقعات بانضمامه الى الاتحاد الاوروبي. حتى الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 كان تأثيرها محدودا على الاقتصاد التركي، الذي تعافى بشكل مذهل خلال ثلاث سنوات ليحقق نسبة نمو بلغت 8,5 في المئة.

اتخذ النظام التركي مسار الحكم الشمولي بشكل واضح، مما ساهم في إبعاد المستثمرين الأجانب الذين تجنبوا أيضا الأسواق الناشئة نظرا الى ضعف قدرتها على تحمل آثار الكوارث العالمية

لكن الحال انقلبت مع بداية النصف الثاني من حكم أردوغان، حيث بدأت الاقتصادات المتقدمة في التعافي، مما أدى إلى خروج المستثمرين من الأسواق الناشئة التي تتسم بدرجة أعلى من الأخطار مثل تركيا. 

الأهم من ذلك، ألقت حادثة القمع العنيف الشهيرة لتظاهرات نشطاء بيئيين في ميدان تقسيم باسطنبول عام 2013 بظلالها على صورة أردوغان كحاكم ديمقراطي. وكانت هذه مجرد البداية، حيث أكدت أحداث لاحقة، أن الرجل البالغ حاليا من العمر 70 عاما، حاكم سلطوي.  

اتخذ النظام التركي مسار الحكم الشمولي بشكل واضح، مما ساهم في هروب المستثمرين الأجانب الذين تجنبوا أيضا الأسواق الناشئة نظرا الى ضعف قدرتها على تحمل آثار الكوارث العالمية، منها جائحة "كوفيد-19" وحرب أوكرانيا. وصار هؤلاء بائعين فحسب خلال خمس سنوات منذ بداية 2018، وفقا لبيانات البنك المركزي.

إيوان وايت

ومع فقدان الاقتصاد التركي بريقه، بدأت شعبية أردوغان، في الاضحملال. وجاء التعبير الأخير عن الاستياء الشعبي في الانتخابات البلدية التي شهدت الهزيمة الأولى لـ"حزب العدالة والتنمية" لصالح حزب المعارضة الأساسي – "الشعب الجمهوري" – في أبريل/نيسان الماضي.

"حلم بعيد المنال"

جنكيز أكتار، وهو باحث أول في مركز إسطنبول للسياسات، وصف تركيا بأنها "شديدة المركزية" تحت حكم  رئيس يرغب بشدة في التمسك بسلطاته، وبأي ثمن. وقال: "لم يعترف أردوغان بالهزيمة البتة". وانتقد الرئيس التركي بعد خسارته الانتخابات في  17 أبريل/نيسان الذين يريدون استحداث نظام مزدوج يتكون من سلطة محلية بجانب الحكومة المركزية، واصفا الفكرة بأنها "حلم بعيد المنال".

تراجع دور مجموعة من المؤسسات الحكومية بشكل كبير، بما في ذلك البرلمان وهيئة المنافسة والهيئة الرسمية للإحصاءات والبنك المركزي

وحصلت موجة واسعة من التعديلات في الجيش والشرطة والقضاء، من بين مؤسسات أساسية أخرى، في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016، بعد عامين من انتخاب أردوغان رئيسا. كما صودرت آلاف الشركات.

في العام اللاحق، اعتمدت تركيا نظاما رئاسيا حزبيا من خلال استفتاء، مما منح أردوغان صلاحيات غير مقيدة وبدون رقيب.

ويعتقد أن مثل تلك التطورات أسست لحكم مستبد وللمحسوبية في تركيا. فعلى سبيل المثل، عين أردوغان صهره بيرات البيرق وزيرا للخزانة والمالية في عام 2018، قبل أن يستقيل الأخير بعد عامين. كذلك تراجع دور مجموعة من المؤسسات الحكومية بشكل كبير، بما في ذلك البرلمان وهيئة المنافسة والهيئة الرسمية للإحصاءات والبنك المركزي.

تغيير محافظ البنك المركزي التركي خمس مرات منذ عام 2019، مع إصرار الرئيس التركي بشكل كبير على تنفيذ سياسة نقدية "غير تقليدية". إذ أصر على إبقاء معدلات الفائدة منخفضة على الرغم من ارتفاع نسب التضخم، التي عادة ما تتطلب تشددا نقديا، ورفعا للفوائد وليس العكس، للسيطرة على التضخم. وأدت هذه السياسة "غير التقليدية" إلى تسارع ارتفاع الأسعار، على الرغم من تأكيد أردوغان مرارا أن سياسته سيكون لها التأثير الإيجابي المعاكس.  

إقرأ ايضا: هل تنقذ "الأرثوذكسية " النقدية اقتصاد تركيا؟

هدفت السياسة النقدية غير الكلاسيكية في المقام الأول إلى تجنب رفع تكاليف الاقتراض والحفاظ على معدلات نمو عالية. ويمكن القول إن هذا الهدف قد تحقق إلى حد كبير، حيث نما الاقتصاد التركي بنسبة 4,5 في المئة في عام 2023 على الرغم من الزلزال المدمر في بداية فبراير/شباط من العام نفسه، إلا أن ذلك جاء على حساب الليرة التي فقدت ما يقرب من نصف قيمتها خلال خمس سنوات، مما أدى إلى ارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية.  

على الرغم من الزيادة الكبيرة الأخيرة في معدل سعر الفائدة، ارتفع التضخم الى نحو 70% في أبريل/نيسان

وأثرت العملة المتدهورة، التي بدأت بالانخفاض في عام 2018 مع توتر العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، سلبا على قدرة تركيا على امتصاص الصدمات الخارجية، وأدت إلى معاناة الملايين من تكلفة معيشة مرتفعة.  

وتسببت أصوات الناخبين الذين يعانون من ارتفاع التضخم في المدن بشكل أساسي في الهزيمة التاريخية لأردوغان في الانتخابات الأخيرة، حيث أدى ضعف العملة إلى ارتفاع أسعار المدخلات الصناعية، مما أثر على قطاع التصنيع الذي يمثل نحو خمس الناتج المحلي الإجمالي، وأيضا إلى زيادة أسعار السلع التي عانى منها الشعب التركي البالغ عدده 86 مليون نسمة.

أ.ف.ب.

ولم تضع أنقرة حدا لسياستها النقدية الطويلة الأمد إلا أخيرا من خلال زيادة سعر الفائدة الرئيسي ثماني مرات متتالية، آخرها في يناير/كانون الثاني الماضي. ورفع محافظ البنك المركزي الحالي فاتح كراهان، الذي تولى المنصب في فبراير/شباط الماضي، سعر الفائدة من 45 في المئة إلى 50 في المئة في مارس/آذار بنية واضحة لخفض أسعار المستهلك.

لا جدوى 

على الرغم من الزيادة الكبيرة الأخيرة في معدل سعر الفائدة، ارتفع التضخم في مارس/آذار وأبريل/نيسان حيث بلغ نحو 70 في المئة في أبريل/نيسان، وهي الزيادة الشهرية السادسة على التوالي، مدفوعة بسياسات مالية فضفاضة بما في ذلك قرار مضاعفة الحد الأدنى للأجور السنة الجارية، الذي بلغ نحو 17 ألف ليرة بعد الزيادة.

أدى رفع سعر الفائدة أيضا إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض إلى أعلى مستوياتها منذ تولي أردوغان الحكم. وفضل البنك المركزي عدم اللجوء الى زيادة أخرى في سعر الفائدة خلال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار كما توقع معظم المحللين.  

هذا الخليط بين معدل الفائدة المرتفعة والتضخم المفرط كلفه كثيرا في صندوق الاقتراع

لتاثا غوز، كبير الاقتصاديين في "كومرتس بنك"

كان قرار زيادة سعر الفائدة في مارس/آذار "تعديلا لمرة واحدة لزيادة أخطار التضخم، وبعد ذلك يعود البنك المركزي إلى الانتظار والمتابعة" حيث أصبح مسار تدهور الليرة "روتينيا" بالنسبة لصناع السياسات، وفقا لتاثا غوز، كبير الاقتصاديين في "كومرتس بنك". وقال "إن الافتقار إلى التحسن في الديناميكيات أدى إلى توتر السوق النقدية بشكل متزايد حيث لديها تصور دائم أن الرئيس رجب طيب أردوغان سيكون صبره محدودا مع معدلات الفائدة العالية". وأضاف، "هذا الخليط بين معدل الفائدة المرتفعة والتضخم المفرط كلفه كثيرا في صندوق الاقتراع. 

إقرا أيضا: تركيا في مهب رياح اقتصادية عاتية

تمثل زيادات الأجور والتعويضات الأخرى التي تحمي القوة الشرائية وسوق العمل، وإلى حد ما شعبية أردوغان، عاملا مضادا لتباطؤ التضخم، وقد تؤدي أيضا الى إبقاء معدلات الفائدة الحقيقية سلبية بشكل كبير. 

.أ.ب

وقال غوز، "من المحتمل أن صناع السياسات لم يستوعبوا بشكل كامل الحاجة إلى ترك الاقتصاد يتباطأ إلى الحد المطلوب لحل مشكلة التضخم المتجذرة بعمق".

التحولات الديبلوماسية 

وشهدت أنقرة والقاهرة، اللتان انخرطتا في نزاع دام لسنوات عقب إطاحة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي في عام 2013، تحسنا ملحوظا في العلاقات عندما زار أردوغان القاهرة في فبراير/شباط الماضي، حيث تعهد مع نظيره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتعزيز التعاون الاقتصادي.   

التطبيع مع الدول المجاورة يظل غير مؤكد على الإطلاق وغير مستدام طالما أبقت تركيا نبرة عدوانية في علاقاتها مع المنطقة

جنكيز أكتار، باحث أول في مركز إسطنبول للسياسات

وكانت تركيا أيضا على خلاف لسنوات مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، قبل أن تطبيع العلاقات في عام 2021، هذا التقارب الذي مهد الطريق لاستثمارات بمليارات الدولارات في الدولة العضو لحلف الناتو.   

لكن "التطبيع مع الدول المجاورة يظل غير مستدام طالما أبقت تركيا نبرة عدوانية في علاقاتها مع المنطقة"، كما قال أكتار، مضيفا أن "التظاهر بالتحول إلى قوة إقليمية سيعيق دائما التطبيع مع الدول المجاورة".   

وقرر الرئيس التركي هذا الشهر تقييد الصادرات إلى إسرائيل بعدما عارضت اقتراح أنقرة بإيصال مساعدات الى قطاع غزة، فيما هددت تل أبيب ردا على ذلك بحظر المزيد من المنتجات التركية. ومن المرجح أن يؤدي هذا التوتر إلى تفاقم الأزمة المالية التي تواجهها أنقرة وزيادة حدة العداء مع اسرائيل، التي مثلت تركيا لها خامس أكبر مورد في عام 2023 بصادرات تبلغ قيمتها 4.6 مليار دولار.

العلاقة مع اسرائيل

جاء أول رد فعل قوي لتركيا تجاه إسرائيل بعد مرور أكثر من سبعة أشهر على حرب غزة، وهو ما لا يمكن النظر إليه بمعزل عن التطورات السياسية في الداخل التركي. ففي حين قد يكون لتأجيج التوتر مع الدولة العبرية تكلفة اقتصادية كبيرة في وقت يسعى فيه أردوغان إلى إحياء أمجاده، فإن الاستمرار بعدم التصعيد يمكن أن يكبد الرئيس التركي خسائر سياسية أكثر فداحة.

الطريقة الوحيدة أمام أردوغان لاستعادة مكانته القديمة،هي تحسين الظروف المعيشية لدائرته الانتخابية، لكن ذلك يبدو قاتما للغاية

جنكيز أكتار، باحث أول في مركز إسطنبول للسياسات

بداية التصعيد كانت في أواخر أبريل/نيسان بقرار الحد من الصادرات التركية إلى إسرائيل بعدما عارضت الأخيرة إقتراحا تركيا بإيصال مساعدات إلى قطاع غزة المنكوب، قبل أن تعلن السلطات التركية في شهر مايو/أيار تجميد العلاقات التجارية بين البلدين بشكل كامل. وكانت تركيا خامس أكبر مورد لإسرائيل في عام 2023 بصادرات بلغت قيمتها 4,6 مليارات دولار، بينما بلغ حجم التجارة بين البلدين 9,5 مليارات دولار قبل أن تتوقف. 

كذلك أعلنت تركيا في مطلع الشهر الجاري سعيها للانضمام إلى جنوب أفريقيا في القضية المرفوعة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، والتي توجه من خلالها اتهامات لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.   

كثيرا ما يوجه أردوغان انتقادات حادة لإسرائيل في شأن القضية الفلسطينية، لكن نادرا ما تترجم تركيا كلامها إلى أفعال حيث حافظ البنكان المركزيان في البلدين على علاقات ثنائية قوية طوال عقود.  

ولكن مع انقلاب "حزب الرفاه الإسلامي" الجديد ضد "حزب العدالة والتنمية" في الانتخابات المحلية الأخيرة ومناشدة الناخبين المحافظين له، بمواقف أكثر صرامة في شأن حرب غزة، ربما كان الرئيس التركي في حاجة إلى اتخاذ خطوات ضد إسرائيل، بداية بخفض الصادرات، للحد من خسارته السياسية. 

الطريقة الوحيدة أمام أردوغان لاستعادة مكانته القديمة "هي تحسين الظروف المعيشية لدائرته الانتخابية، لكن ذلك يبدو قاتما للغاية". ولا يعني ذلك أنه لن يخوض صراعا للبقاء في منصبه، فهو وأتباعه "ليسوا مستعدين للتخلي عن السلطة، لكنهم مستعدون للقتال حتى النهاية"، على حد قول أكتار.   

font change

مقالات ذات صلة