انزلقت ليبيا منذ ثورة 2011 في دوامة لامتناهية من الانحدار، وسياساتها الداخلية ووضعها الأمني وعلاقاتها الدولية عالقة في دورات مدمرة أفضت إلى تآكل اقتصادها ونسيجها الاجتماعي وآفاقها العالمية مع كل تكرار لدورة العنف هذه. وبعد مرور ثلاثة عشر عاما، لا تزال البلاد منقسمة بشدة، وليس فقط في خط الجبهة العسكرية الذي يفصل بين الشرق والغرب، بل إن هناك إدارات موازية وتدخلات دولية متنافسة وانقسامات داخل المدن والقبائل والمناطق وفيما بينها.
وكل المحاولات التي بذلتها مجموعات ليبية مختلفة وجهات دولية فاعلة لانتشال ليبيا من هذه الدوامة وتحقيق الاستقرار فيها على شكل اقتصاد سوق ديمقراطية كان يأمله الكثير من الليبيين ذات يوم، أو دكتاتورية عميلة يتوق إليها الكثير من المفترسين، باءت جميعها بالفشل في أحسن الأحوال، وساهمت في زيادة شحن الدوامة في أسوئها.
واليوم، الكثير من هذه الدورات تقترب من نهايتها بشكل متزامن. يبدو أن دورة الحياة السياسية لرئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة تنهار، وهو الذي عيّن عام 2021 لقيادة ليبيا إلى الانتخابات. فالأجهزة الأمنية تتصدع والاقتصاد ينهار. وتتراكم القوى الأجنبية على نحو ينذر بالسوء، كما استقال مؤخرا الممثل الخاص للأمم المتحدة. وها هو المجتمع الدولي، وبعد سنوات من الإهمال، يجدد اهتمامه بالعملية السياسية الليبية، ولكن يبدو أنه يستعد لتكرار كل أخطائه الماضية. إنها لحظة مشؤومة لهذا البلد الرئيس في شمال أفريقيا، نظرا للمخاوف من مدى قدرة هذا البلد على تحمل مزيد من هذه الدورات. لكن نهاية هذه الدورات تقدم أيضا فرصة لشيء جديد.
صعود الدبيبة وسقوطه
وصل الدبيبة إلى منصبه محمولا على موجة من التفاؤل الزائف والوعود الكاذبة، مثل كل السابقين عليه في مرحلة ما بعد الثورة. جاء تعيينه بعملية للأمم المتحدة مصممة لتنتهي بإجراء انتخابات بعد 10 أشهر فقط، ورأت الدول الراعية لهذه العملية أن إدارته القادمة وسيلة لتحقيق الاستقرار والتغيير، على الرغم من الادعاء بأنه قدم لهم خطة حكم مدتها عامان- بدلا من فترة ولايته البالغة عشرة أشهر- مع افتقار واضح للتخطيط الانتخابي.
وقد أمل الكثيرون في أن يتمكن الدبيبة من إعادة الحياة إلى قطاع الأعمال مجددا على الأقل، لأنه ممثل عائلة ليبية تقدم نفسها على أنها من أباطرة البناء ولكنهم متهمون بالفساد، (وهو ما ينكرونه بشدة). واعتقد الكثيرون أن البلاد ستستعيد وحدتها أخيرا مع نائب مرشح للرئاسة ينحدر من القبيلة الشرقية نفسها التي ينتمي إليها البطل الوطني الليبي عمر المختار، واتفاق خلف الكواليس مع الجنرال العسكري في شرق ليبيا خليفة حفتر لضمان تعيينه. كما ساد الاعتقاد بأن المنافسة الدولية على ليبيا ستنتهي أخيرا، نظرا لأنه سافر إلى القاهرة قبل أن يجف حبر تعيينه، ومع علاقات عائلته الجيدة بتركيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة.
تلاشي الآمال
الإصلاح الاقتصادي الأكبر الذي حققه الدبيبة هو السيطرة المنهجية على مختلف مكاتب المراقبة المالية التي تعمل على تسهيل عمل القطاع العام الهائل في ليبيا. وعلى الرغم من إنفاق ما لا يقل عن 20 مليار دولار سنويا، فإنه لم ينجز شيئا يذكر باستثناء مشاريع الصيانة السطحية.
وظل اتفاقه مع حفتر على طبيعته التأسيسية. ولكن لم تتحقق منه المنافع العامة أبدا، حيث ادعى الدكتاتور أن الدبيبة نكث بوعوده إذ رفض سيطرة حفتر على وزارتي الدفاع والمالية الليبيتين، أي مفاتيح "المملكة". مع ذلك تعاونت العائلتان خلف الكواليس في مشاريع مالية مختلفة، وغالبا ما ركزت على قطاع النفط الليبي، مما أدى إلى تعفن قلب الاقتصاد الليبي. وتجلى ذلك بظهور سماسرة مشبوهين لمبيعات النفط الخام مع ظهور تطورات مشبوهة، وإعادة بيع التراخيص القائمة، وإنشاء مشاريع جديدة للطاقة، والأكثر شهرة على الإطلاق نظام مقايضة الوقود مقابل النفط الخام الذي يحجب أهم المؤسسات الليبية وأكثرها ربحا (بيع النفط الخام وشراء الوقود) في صفقات مبهمة.