بين انتخاب الرئيس الإيراني وانتخاب الرئيس اللبنانيhttps://www.majalla.com/node/318106/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A
من أين يجب البدء بالحديث عن أزمة لبنان؟ فلبنان أصبح أزمته، أي أنه ما عاد ممكنا الحديث عنه بمعزل عن أزمته... ابتلعته أزمته، بتاريخه وحاضره وحتى بمستقبله الذي تحدده أزمته، وأي مستقبل يمكن أن يخرج من رحم الأزمة؟ فالأرجح أنه مستقبل يشبه الأزمة نفسها ويشكل امتدادا لها، ولذلك فإن التفاؤل في الموضوع اللبناني هو تفاؤل سلبي لأنه يخالف الواقع ويغرق في الأوهام، وهو تفاؤل لا يؤدي وظيفة سياسية بل على العكس تماما فهو يضيّق أفق السياسة وإمكاناتها ما دامت السياسة تقوم أولا على الاصطدام العاري بالوقائع والبحث عن الأدوات الأنسب للتعامل معها. لا بل إن أي تفاؤل في الوضع اللبناني الآن هو تطبيع مع الوضع القائم، أي تطبيع مع منظومة المصالح الاقتصادية والسياسية المافياوية التي كانت تقول إن البلد بألف خير، فإذا به يتحول إلى مأساة والتي تقول الآن إن البلد سيكون بألف خير، أي على صورة مصالحها أولا وآخرا.
المعادلة الصعبة
غير أن قضية لبنان لا تعني اللبنانيين وحدهم، وإن كانت قضيتهم الأولى، لكنهم الآن آخر المعنيين بها بالمعنى الجيوسياسي إذا ما نظر إلى لبنان من زاوية الخريطة الكبرى للمنطقة. ولذلك فإن لبنان، الدولة الفاشلة والمنهارة اقتصاديا واجتماعيا، هو سؤال خارجي أكثر مما هو سؤال داخلي، أي إن أي أهمية يمكن أن يستحوذ عليها لبنان عربيا ودوليا متأتية من الخطر الذي يمكن أن يشكله انهياره التام على المنطقة في لحظة إعادة هندستها الصعبة والمعقدة. بالتالي فإن أهمية لبنان للخارج تكبر كلما ساءت أوضاعه، وهذه معادلة سلبية بالنسبة للبنانيين لكنها المعادلة الوحيدة، والتي يفترض أن تثير حساسية سياسية، لكن أي سياسة مع طبقة سياسية فاسدة وغارقة في حساباتها التي لا تتعدى أحيانا الحديقة الخارجية للمنزل العائلي في حسابات التوريث والمنافع الاقتصادية. هؤلاء السياسيون والقيادات الأمنية والموظفون الكبار في الدولة الذين يعيشون فوق الشعب، يحتفلون بزفاف أولادهم بأقصى ما يمكنهم من البذخ، بينما يتماهى فقراء كل طائفة مع أغنيائها بدل أن يحفزهم التفاوت الاقتصادي المريع على الانقلاب ضدهم، والتقاطع مع فقراء الطوائف الأخرى، مع ضرورة إعادة تعريف مصطلح الفقر في لبنان لأنه بتعريفه الحالي يتجاهل الحقوق الأساسية للمواطنين على الدولة ويكتفي بقياس المدخول اليومي او الشهري وعدد الأرغفة في سلة الخبز المنزلية بينما الفقر الحقيقي هو أن يكون المواطن عاريا من أي ضمانة في حقوقه البديهية.
يجب النظر إلى الفراغ في رئاسة الجمهورية اللبنانية على أنه العنوان الأبرز للأزمة اللبنانية، أي العنوان الذي يجب أن يبنى عليه فهم للبلد وتصور لمستقبله
هذا استطراد أو مقدمة لا بد منهما للتذكير بحجم الأزمة اللبنانية وللتذكير بأن لبنان بلد منهار حقا وأنه لا يختلف كثيرا عن جارته سوريا بل هو وإياها في "مصير واحد"، ويجوز هنا استحضار المقولة "البعثية" التاريخية مع بعض الإضافات لتصبح: "شعب واحد منكوب في دولتين منكوبتين"، وهذا يشكّل مدخلا للتعامل مع أزمة اللاجئين السوريين في لبنان، إذ إن المنطق السائد لمعالجاتها لبنانيا يقوم وكأن لبنان معزول عن النكبة السورية وكأنه يستطيع أن يعالج أزماته خارج أزمات جواره، بينما تحفز أزمة اللاجئين السوريين إلى إعادة التفكير في أزمة المشرق العربي ككل، وفي أن هؤلاء اللاجئين الهائمين على وجوههم والمرعوبين هم على ترابط وثيق مع اللبنانيين الضائقين بهم والهائمين على وجوههم هم أيضا والمرعوبين، على ترابط في تصور معالم المستقبل في هذه المنطقة... إنه تنافر المرعوبين والمنكوبين وإن كانت النكبة والرعب السوريين أشد حتى الآن.
بدفع من ذلك كله يجب النظر إلى الفراغ في رئاسة الجمهورية اللبنانية على أنه العنوان الأبرز للأزمة اللبنانية، أي إنه العنوان الذي يجب أن يبنى عليه فهم للبلد وتصور لمستقبله. ففي خطابه ما قبل الأخير عقب حادثة سقوط مروحية الرئاسية الإيرانية، أطل الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله للقول إن إيران دولة مؤسسات أي إن انتخاب رئيس جديد فيها سيتم وفق الآليات الدستورية المتبعة ومن دون حدوث أي ارتباكات أو فراغات في جسم النظام والدولة، وبذلك كان نصرالله جزءا من دعاية النظام الإيراني عن نفسه وجزءا من سياسته للتعامل مع حادث سقوط المروحية الرئاسية وتداعياتها ومع المرحلة الانتقالية التي سارع "المرشد" علي خامنئي إلى رسمها بالقول إن "شؤون البلاد لن تتعطل".
أي تسوية مع "حزب الله" دافعها الاستحصال على حصة من النفوذ السياسي وملحقاته والتي يوزعها "حزب الله" على أفرقاء التسوية، كل بحسب ضرورته إليه ورضاه عنه
لكن مع تجاوز هذه الجزئية الإيرانية في كلام نصر الله فإن له أيضا صدى لبنانيا قويا، إذ إن نصر الله الذي أشاد بإيران كـ"دولة مؤسسات" وبالتالي لن يقع فيها فراغ رئاسي، نسي أو تناسى أن لبنان غارق في الفراغ الرئاسي منذ قرابة السنتين، بمسؤولية رئيسة من "حزب الله" الذي يشترط لانتخاب رئيس أن يكون هذا الرئيس مرشحه، ولكن ليس "حزب الله" وحده من يمنع انتخاب رئيس للبنان ما دام الأفرقاء السياسيون وحتى المجتمع اللبناني قد سلموا بقواعد اللعبة الجديدة التي تقوم على تهميش المؤسسات وإدارة السياسة من خارجها أو من دون ضوابط وإلزامات من داخل النظام السياسي. بهذا المعنى فإن مسؤولية "حزب الله" الرئيسة كقوة مهيمنة ومتحكمة في العملية السياسية والدستورية، تقابلها مسؤولية سياسية واجتماعية في التعامل القاصر مع مسؤولية "حزب الله" الرئيسة في أزمة الرئاسة وفي أزمة البلد ككل.
وما يفاقم هذا العطب الجوهري وهذه الأزمة البنيوية أن أي تسوية سياسية مع "حزب الله" دافعها وصول أفرقائها إلى السلطة والاستحصال على حصة من النفوذ السياسي وملحقاته والتي يوزعها "حزب الله" على أفرقاء التسوية كل بحسب ضرورته إليه ورضاه عنه. وهذا فارق أساسي بين أن تكون التسوية بحكم أنه لا إمكان لإدارة الأزمة من دونها وبالتالي فهي تسوية مشروطة ومؤقتة، وبين أن تكون بدافع رغبة أطرافها في الوصول إلى الحكم والتمتع بمزاياه المتبقية. إذ إن هذا الفارق يستتبع فارقا أساسيا في سردية التسوية بين أن تكون اعترافا بالخلل القائم ومحاولة لمنع إسقاط النظام "إلى الوراء" أي إلى ما هو أسوأ منه، وبين أن تكون مقوضة للدولة والنظام وتكريسا لواقع هيمنة "حزب الله" عليهما، فبدلا من أن ترسم الدولة حدودا لـ"حزب الله" فهو يرسم حدودا لها. وهذا ما يمكن معاينته بدءا من قرار الحرب والسلم الذي يمسك به الحزب جنوبا وصولا إلى الحملة الأمنية التي تنظمها وزارة الداخلية لضبط مخالفات السير. ففي الحالة الأولى الدولة غائبة، أما في الحالة الثانية فهي حاضرة بمقدار ما يسمح "الحزب" لها بالحضور، إذ لا يشعر مسؤولوه بأدنى حرج لاستقطاب الضباط ضد قرارات وزارتهم، ولا بالتهديد بـ"قبع" القضاة إذا خالفوا تصوراته للبت في ملف ما، كما حصل في ملف جريمة انفجار مرفأ بيروت.
هناك سؤال عن مستقبل حضور إيران في كل من لبنان وسوريا، فهل يكون شرط الحل هنا وهناك تقلص هذا الحضور
بيد أنه وفي ظل هذه الأعطاب كلها، يطرح سؤال أساسي عن كيفية الحل في لبنان، ليس بالنسبة للتصورات الداخلية للحل وهي تصورات مكرورة وجامدة وليس فيها ذرة إبداع سياسي، بل أولا بالنسبة للتصورات الخارجية للحل والتي يحملها الموفدون الدوليون إلى لبنان وفي مقدمتهم الموفد الفرنسي جان إيف لودريان والتي عرفت نتائج زيارته بيروت الثلاثاء قبل وصوله إليها، إذ سرب رئيس البرلمان وحليف "حزب الله" نبيه بري "معلومة" مفادها بأنه نصح لودريان بعدم المجيء إلى بيروت، ثم وقبل الزيارة بساعات أجرى بري مقابلة صحافية، وهو نادرا ما يدلي بتصريحات مطولة، ليجدد شروط "الثنائي الشيعي" للتسوية وتصوره للحل الذي "يبدأ من الجنوب"، أي إن التفاوض حول كل شيء من لبنان يجب أن يكون أولا مع "حزب الله"، ثم يأتي دور الأفرقاء الآخرين ليقبلوا بالحل المفروض على تقاطع المصالح الإقليمية والدولية أو يظلوا خارج الحكم. هذا الحكم الذي يقوم في الأصل ضد المؤسسات كفكرة ولو جاء في الشكل معيدا الاعتبار لها.
ولذلك فإن السؤال الرئيس هنا هو مدى قابلية الخارج وبالأخص الدول العربية لحل يكرس الأمر الواقع ويعيد إنتاج أسباب الأزمة نفسها. وهذا لا ينطبق على لبنان وحسب بل على سوريا أيضا، وإن كان النظام هناك يملك القدرة بفعل تكوينه على التماهي مع الدولة أكثر بكثير مما يستطيع "حزب الله" التماهي مع الدولة في لبنان.
وبين هذا وذاك، هناك سؤال عن مستقبل حضور إيران (دولة المؤسسات) في كل من لبنان وسوريا، فهل يكون شرط الحل هنا وهناك تقلص هذا الحضور، وإذا كانت ترد من سوريا إشارات إلى إمكان ذلك، فماذا عن لبنان؟ هل يجب أن نسارع إلى الاعتقاد بأن حملة "حزب الله" لجمع الأموال لشراء المسيّرات مؤشر على تراجع تدفق الأموال الإيرانية إليه؟ أوليست المؤشرات السورية على رسم حدود معينة مع النفوذ الإيراني في دمشق أقرب إلى التصديق رغم الحذر الملزم حيالها؟ لكن ما العمل إذا كان شرط بقاء "دولة المؤسسات" في إيران هو غياب أو سقوط دولة المؤسسات في لبنان وسوريا؟! وهل يراد للبنانيين أن يعتقدوا بأن انتخاب رئيس جديد في إيران كاف لهم، ولذلك ربما رفعت صور الرئيس الإيراني المتوفي على طريق مطار بيروت في ظلّ غياب صورة الرئيس اللبناني أو كبديل منها!