يُحكى أن وفدا من أهالي بيروت الغربية توجه إلى مقر إقامة ياسر عرفات في العاصمة اللبنانية قبل مغادرته البلاد في 30 أغسطس/آب 1982. كان الانسحاب الفلسطيني قد بدأ قبل تسعة أيام، تزامنا مع وصول قوات حفظ سلام دولية إلى المرفأ، من فرنسا أولا ثم من إيطاليا والولايات المتحدة الأميركية. كان الغزو الإسرائيلي قد انطلق في مطلع شهر يونيو/حزيران من العام نفسه، وتعرضت بيروت لقصف عنيف، شجع المساعي الدولية على حل الأزمة، ورفع وتيرة المطالبين برحيل الفدائيين الفلسطينيين عن لبنان. دخل أحد مساعدي "الختيار" كما كانوا يسمون عرفات، علما أنه لم يكن عجوزا، ولم يكن قد تجاوز الثالثة والخمسين من عمره، ليبلغه أن أهالي بيروت يريدون وداعه، فاستغرب ذلك.
كان عرفات يتحدث بلهجة غزاوية وهو من أهالي القطاع الذي لاقى من القصف منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ما يفوق أضعافا مضاعفة كل ما تعرضت له بيروت في حربها الأهلية.
كانت محطة "إن بي سي" الأميركية قد نقلت على لسان أحد مستشاري بنيامين نتنياهو أن إسرائيل لا تُمانع في خروج يحيى السنوار وبقية قادة "حماس" العسكريين من غزة بالطريقة نفسها التي أخرج بها ياسر عرفات من لبنان، ثم أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" بأن قيادة "حماس" السياسية على وشك أن تغادر قطر أيضا. وقالت الصحيفة إن ذلك سيسرع عملية تبادل الأسرى، وذكرت أن "حماس" تواصلت مع بلدين عربيين بحثا عن بديل للمضيف القطري، أحدهما عُمان.
هبت الرياح
صحيح أن عرفات وجد مساحة للضحك مع مساعديه في ذلك اليوم اللاهب من صيف عام 1982، ولكنه بقي متمسكا بجوهر معركته ورمزيتها. وفي الوقت نفسه كان شديد التألم لما حدث له ولرجاله، وكيفية طردهم من لبنان. قال أحد معاونيه إنه بكى على متن سفينة "أتلانتس" اليونانية وهي تغادر مرفأ بيروت، في لحظة ضعف نادرة من الختيار، "علما أنه لم يكن يبكي إلا على الشهداء". بكى عرفات مع أن لبنان لم يكن أرضه، ولم تبلغ إقامته فيه إلا 11 سنة فقط لا غير، وكان لوجوده فيه أثر سلبي للغاية على اللبنانيين، فقد أشعل نيران الحرب الأهلية سنة 1975. مع ذلك تأثر جدا وحزن على مغادرة مدينة كان يعدها وطنا ثانيا له ولرجاله، فكيف سيكون موقف حركة "حماس" إذن في حال أجبرت على مغادرة قطر والقطاع؟
اللحظة الفاصلة في الوجود الفلسطيني في لبنان كان الاتصال الهاتفي الذي تلقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن من الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وقال الأخير إن القتل في لبنان بلغ ذروته وعليه أن يتوقف فورا.