سام هافادتوي يصنع فريق كرة قدم من 11 فنانا عالمياhttps://www.majalla.com/node/318086/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B3%D8%A7%D9%85-%D9%87%D8%A7%D9%81%D8%A7%D8%AF%D8%AA%D9%88%D9%8A-%D9%8A%D8%B5%D9%86%D8%B9-%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D9%82%D8%AF%D9%85-%D9%85%D9%86-11-%D9%81%D9%86%D8%A7%D9%86%D8%A7-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A7
ميلانو: تُعتبر الهجرات في عالم الفنون والأدب موضوعا متكررا، وفي الوقت نفسه معاصرا، كونه مرتبطا بالأشكال وبالتأثرات العميقة والتغيرات الكبيرة. قديفسِّر ذلك سبب اهتمامنا بهذه الظاهرة، كونها اتسعت في العقود الأخيرة لتشمل أعدادا متزايدة من الكتّاب والفنانين الذين اجبروا على مغادرة أوطانهم هربا من الحروب والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، وفوق كل شيء هربا من الملاحقة بسبب المواقف المناهضة للأنظمة الاستبدادية. من هنا أطلقت مؤسسة "موديما" حوارا مفتوحا حول هذا الموضوع باستضافة معرض "هجرات ثقافية"، وهو المعرض الشخصي الثالث للفنان المجري سام هافادتوي في ميلانو. يضم المعرض سبعة وعشرين عملا فنيا لأحد أكثر الفنانين أصالة وإثارة للاهتمام في الساحة الدولية. ففي العام الماضي فحسب، كُرِّم في ستة متاحف مهمة، بما فيها المتحف الوطني المجري.
ولد سام هافادتوي في عام 1952 في لندن من عائلة مجرية. في 1956، قرر والداه العودة إلى أرض الوطن، قبل اندلاع الثورة المجرية بأيام معدودة. لكن بعد الثورة، التي أخمدها الجيش السوفياتي بعنف، بات من الصعب السفر إلى أوروبا الغربية. في عام 1971، فرّ سام من المجر، عبر يوغوسلافيا السابقة، عائدا إلى المملكة المتحدة، وبعد عام استقر في الولايات المتحدة الأميركية حيث أسس عام 1978 معرض سام هافادتوي واستوديو التصميم الداخلي، وأصبح، مع مرور الزمن، صديقا مقربا لكل من يوكو أونو وجون لينون وديفيد بوي وآندي وارهول وكيث هارينغ، والعديد من الفنانين الآخرين. عاد منذ عام 2000 ليعيش في أوروبا، متنقلا ما بين بودابست وميلانو.
سير مضطربة
تعزّز سيرة هافادتوي الذاتية المضطربة نظرته الى موضوع الهجرة، الذي يستكشفه بعمق في هذا المعرض من خلال إعادة النظر في أحد عشر عملا لفنانين من القرن الماضي، جميعهم هاجروا ونالوا شهرة كبيرة، وهم: مارك روثكو وآندي وارهول وألكسي فون جافلينسكي وماكس إرنست وفيكتور فاساريلي وبيت موندريان ومارك شاغال ولازلو موهولي- ناغي وماكس بيكمان وبابلو بيكاسو وتامارا دى ليمبيتشكا.
اختار هافادتوي لكل من هؤلاء الفنانين لوحة من أعمالهم وقام بإعادة إنشاء نسختين مطابقتين، ولكن بأسلوبه الخاص
اختار هافادتوي لكل من هؤلاء الفنانين لوحة من أعمالهم وقام بإعادة إنشاء نسختين مطابقتين، ولكن بأسلوبه الخاص: نقاط لا تنتهي ولا تدع مجالا لفكرة النهاية ولا المنظور، وكأنه أناط هذه المهمة إلى أروقة هذا البناء الذي يعود إلى القرن الثامن عشر. من بين العملين المُعاد إنتاجهما، يمكن رؤية لوحة كاملة، في حين يضع هافادتوي أمام الثانية ستارا خشبيا متحركا يمكِّن زوار المعرض من تحريكه وتقرير ما إذا كانوا يرغبون في رؤية اللوحة أو عدم رؤيتها.
يقول الفنان: "الشيء المثير هو أنه عند إغلاقك الستار الخشبي، تظن أن المشكلة لم تعد ماثلة، وأنها اختفت. هذا ما يقودنا إلى السؤال، حول ما إذا كنا نرغب حقا في مواجهة الواقع، أم نتظاهر بأنه غير موجود، أو الأسوأ من ذلك، نقرر تجاهله".
تتميز أعمال هافادتوي بصبغة تعبيرية أخرى ممثَّلة في استخدام الدانتيل، وهو استخدام غير اعتيادي في الفن المعاصر، حيث يستخدمه بعض شعوب أوروبا الشرقية لتغطية جثامين الأموات قبل إغلاق التابوت، كوسيلة لطيفة لمواجهة لحظة صعبة بحيث يكون في إمكان ذوي الراحل وأصدقائه، في هذه الحالة أيضا، رؤية فقيدهم أو عدم رؤيته، أو رؤيته عبر وسيط شفاف.
اللعب بالفراغ
في ممارسته الفنية، يلصق هافادتوي قطعا من الدانتيل على لوحاته، ثمّ يغطّيها بالألوان طبقة بعد طبقة، وبهذه الطريقة يصبح اللعب بالفراغ والامتلاء الذي ينشأ عن ذلك، عنصرا بنيويا في الصورة الناتجة. باستخدام الكشف والإخفاء في الوقت نفسه، يُعَد هافادتوى معلّما لا منازع له في تناغم السرد البصري، وهو ما نلمسه في لوحاته التي تنقل السعادة إلى النفوس في لمحة، لخفتها وألوانها الزاهية.
أعماله تظهر بوصفها عملية للإخفاء، التي تستدعي صيغة الفنان بول كلي في "جعل المرئي غير مرئي"، والناتج من ذلك هو تكوين متداخل، محدود يُذكِّر بطبقات مخطوطات الرقع أو أوراق البردي في العصور القديمة أو الوسطى، حيث كان يُمحى النصُّ الأصلي لإتاحة المجال لكتابة أخرى.
في معرض "هجرات ثقافية"، ما تجده مقصورا هو مساحة الرؤية المحدودة بواسطة استخدام الستائر التي تشكل عملية مفاهيمية تنحو ظاهريا لإبراز ما تخفيه، ولكن في الواقع تلغيه، حيث تحجب النظر إلى اللوحة بأكملها. فالستائر - كالستائر المسرحية – تتركك في حالة ترقب: متى يبدأ العرض؟ وهل سيتغير المشهد بعد إزاحة الستار؟ نحن هنا أمام ستائر خشبية تكشف وتحجب، وبذلك تتقطع اللوحة، وتتجزأ وتختلط، أي أنها باختصار، متحولة ومهاجرة، ليس لديها قيمة مطلقة، بل نسبية. يبقى من الفنان المختار طيف ذكرى واسم العمل الأصلي، الذي هو أيضا عنوان العمل الذي نفذه هافادتوي. هذا الأخير، في كتاب يرافق المعرض، يصبح أيضا صوتا راويا، يحكي عن الأعمال الأصلية، وعن تجوالها المادي والمعنوي، ملمّحا إلى سيرة أصحابها ومساهمتهم الكبيرة في تطوير الفن المعاصر، وبالتالي الذائقة العامة تجاه أحد أقدم الأنشطة الإنسانية منذ فجر التاريخ.
التفكير بالرسم
لا تحتوي أعمال سام هافادتوي على تكريم شخصي للفنانين المختارين، الذين بالتأكيد يكنّ لهم تقديرا كبيرا، فحسب، بل تحمل أيضا تفكيرا أعمق حول لغة الرسم، وتجوالها، ومدى التفاعلات الثقافية، التي أمست الآن شمولية، والتي تستدعي كل إحساس مشترك لدينا بالفن. يقول جينو دي ماجّو، مؤسس مؤسسة "موديما" ورئيسها: "كثير من الفنانين الذين اختارهم هافادتوى، يشكلون جزءا من عصر السرديات الكبرى. إذ هم فنانو حركات التجديد التاريخية أو، مثل روثكو، كانوا جزءا من السيرة الروحية العظيمة، والأفكار العقلانية والذاتية للتعبيرية التجريدية. ستائر سام تضع القناع وتخفي وتكشف هذه السيرة الشاعرية، حيث كان يُعتقد في وقت ما، أن الفن يمكن أن يغيّر العالم، وأن لديه غاية مضطربة وطوباوية. اليوم، بعدما غاب كل هذا إلى حد كبير، قد يكون من واجب الفن أن يضفي معنى على العالم، وهذا ما يبدو أنه يحدث مع الأعمال التي يقترحها هافادتوي بعدما أعاد صياغتها على طريقته الخاصة".
يكتمل المعرض بلوحة ذاتية لهافادتوي عندما كان صبيا، ومنحوتة لإحدى شخصيات والت ديزني وهو يرتدي زي نادل، وهي مهنة غالبا ما كان يقوم بها مؤقتا فنانون هاجروا إلى أميركا لضمان بقائهم على قيد الحياة.
شاغال حارس مرمى، روثكو ظهير أيسر، بيكاسو لاعب خط وسط، وارهول رأس حربة
تاريخيا، في مجال الفن، أنتجت الهجرات الثقافية دائما تأثيرات عميقة وتغيرات ثقافية كبيرة. في الكتاب/الكتالوغ باللغة الإنكليزية، يتحدث هافادتوي عن الأعمال الأحد عشر التي أعاد قراءتها، مع الإشارة إلى السير الذاتية للفنانين، وإلى ترحالهم المادي والمعنوي. ويعين لكل منهم دورا في فريق كرة قدم خيالي: شاغال حارس مرمى، روثكو ظهير أيسر، بيكاسو لاعب خط وسط، ماكس إرنست لاعب خط وسط أيمن، موندريان جناح أيسر، وارهول مهاجم رأس حربة، إلخ.
في إشارة إلى هذا الفريق الاستثنائي الذي تخيله هافادتوي، يشير غولياش غابور Gulyás Gábor، ناقد الفنون والمدير السابق لمركز متحف فيرنتسي: "اختار سام هافادتوي أحد عشر فنانا وكرّمهم من خلال إبداع عمل فني جديد يشير في جوهره إلى أدائهم. يتألف الفريق من أحد عشر عضوا، أنا متأكد من أنكم ستشاركون رأيي في أنه فريق عالمي من الفنانين".
أحد الزوار، عجوز أنيق المظهر، في عقده السابع، قبل أن يخرج، أغلق جميع ستائر اللوحات وهو يطلق ضحكات هستيرية مثل خواكين فينيكس في فيلم "جوكر". يبدو أن هافادتوي تغاضى عمدا في سرديته عن الهجرة والهجرات، عن ذكر "الترحال الذهني"، سمة العصر بامتياز، بدافع قوي لأن يرتكب المرء فعل المواجهة بتلك الجرأة التي ولج فيها هؤلاء الفنانون عوالم التصوّر من نافذة أطلقوا عليها جزافا اسم الواقع المتخيّل.