كيف نحمي اللغات المهددة بالانقراض؟

كتاب جديد يستعرض التهديدات التي تواجه ست لغات قليلة الانتشار

 shutterstock
shutterstock

كيف نحمي اللغات المهددة بالانقراض؟

من المتوقع أن يختفي نصف اللغات الفريدة في العالم، والبالغ عددها قرابة 7000 لغة، في حلول نهاية القرن الحادي والعشرين. ويعود السبب في ذلك إلى أمرين رئيسين اثنين. الأول هو الاستعمار: فعندما غزت القوى العظمى البلدان، فرضت لغتها في الحكومة والمدارس وأهملت اللغات المحلية (أو حظرتها تماما). أما الأمر الثاني فهو الرأسمالية: فمع نمو البلدان وتوجهها نحو الصناعة، ينتقل الناس إلى المدن بحثا عن العمل، وهناك يشرعون في التحدث بشكل متزايد باللغة الأكثر استخداما في مكان العمل بدلا من لغتهم الأم التي يستخدمونها في بيوتهم.

وغالبا ما يُنظر إلى اللغة الإنكليزية، باعتبارها اللغة الأكثر هيمنة في تاريخ العالم، كرمز للتجانس ومحو الثقافات الصغرى. ومع ذلك، يفاجئنا روس بيرلن Ross Perlin في كتابه "مدينة اللغات" الصادر عن دار "غروف" للنشر، بأن مدينة نيويورك، الممتدة فوق بضعة كيلومترات مربعة، هي البقعة الأكثر تنوعا وتعددا لغويا على الأرض. وقد استطاع بيرلن، بصفته المؤسس المشارك لتحالف اللغات المهددة بالانقراض، أن يوثق في كتابه هذا مجموعة مذهلة من اللغات. فحدّدت منظمته غير الربحية نحو 700 لغة يجري التحدث بها في المدينة، وهو ما يتجاوز بكثير المئة لغة تقريبا المعترف بها رسميا في التعداد السكاني الأميركي. ولا يسلط الكتاب الضوء على الثراء الثقافي لنيويورك فحسب، بل هو أيضا دعوة للتعرف الى النسيج المذهل للغات البشرية والحفاظ عليه قبل فقدان المزيد من الخيوط بشكل دائم.

تهديد الجيران

ويفرد بيرلن في كتابه ست لغات، كل منها مهدد من جيران أكبر منها ومختلفين عنها. ولا بأس في أن نذكر هنا أن اللغة الإنكليزية لا تعتبر في أي حال من الأحوال القوة اللغوية الوحيدة. فلغة السيكي، من نيبال، محاصرة بالنيبالية والتبتية. ولغة الواخي، في آسيا الوسطى، تقع بين الصينية والفارسية والروسية، ومتحدثوها عادة ما يتحدثون الطاجيكية مع آخرين من أبناء بلدهم الأصلي.

مدينة نيويورك، الممتدة فوق بضعة كيلومترات مربعة، هي البقعة الأكثر تنوعا وتعددا لغويا على الأرض

الناواتل، التي لا يمكن اعتبارها لغة صغيرة، حيث يتحدث بها زهاء 1.6 مليون من السكان الأصليين في المكسيك، تتراجع بدورها أمام الإسبانية. أما الإنكو، وهي نوع من الأبجدية المكتوبة تستخدم لخدمة عائلة من لغات الماندينغ في غرب أفريقيا، فتجد نفسها في منافسة خاسرة مع الفرنسية، لغة النخبة في المنطقة. بينما تواجه اليديشية تراجعا أمام الإنكليزية في نيويورك والعبرية في إسرائيل. وعلى الرغم من كونها لغة اليهود العلمانيين الأشكناز، فإنها تقترب من حافة الانقراض (على الرغم من أنها تزدهر بين الأرثوذكس المتشددين).

الأشخاص الذين التقاهم السيد بيرلن هم أشخاص متعددو اللغات بالضرورة، ويتحدثون مجتمعين أكثر من 30 لغة مختلفة. وبحسب وصفه لهم، فإن كل فرد ملزم "التنقل برشاقة بين بيئة لغوية وأخرى"، وحفاظا على جزء من الثقافة المرتبطة بلغاتهم العزيزة، يرفض هؤلاء الأشخاص التوقف عن استخدامها، على الرغم من الدوافع التي تحدوهم إلى القيام بذلك.

غالبا ما يتبع انقراض اللغات نمطا متشابها، إذ يؤدّي الغزو والاستعمار إلى الفقر، وأحيانا إلى الشعور بالإحراج الداخلي. ونتيجة لذلك، غالبا ما يختار الآباء تربية أطفالهم بلغة أوسع انتشارا لضمان مصالحهم الاقتصادية. وعما إذا كانت لغة ما ستختفي تماما، فهذا أمر يحدّده الجيل المقبل: فالكثير منهم يندمجون وتضيع لغتهم إلى الأبد، مع العلم أنهم يحاولون إحياءها.

أصول مقدّسة

هل يمكن الأطراف الخارجية المساهمة في حفظ اللغات؟ العديد من المتحدثين باللغات الصغيرة يعتبرونها أصولا مقدسة أو نادرة، وغالبا ما ينظرون إلى محاولات الغرباء تعلم لغاتهم وتوثيقها على أنها تتسبب بالضرر. فهم لا ينظرون إلى لغاتهم كمجرد موضوعات للبحث العلمي. ولذلك، يجب على أولئك الذين يسعون إلى المساعدة، مثل بيرلن، أن يتصرفوا بحذر. يصف بيرلن في كتابه لقاء حذرا أوليا مع آخر المتحدثين الأصليين بلغة لينابي، لغة نيويورك الأصلية.

يعرض تيم بروكس، الكاتب البريطاني والمدير التنفيذي لمشروع الأبجديات المهددة بالانقراض (مجموعة أخرى غير ربحية)، وجهة نظره في كتابه الأخير، "الكتابة ما وراء الكتابة"، ويجادل ضمنيا بأن اللغويين غالبا ما يتجاهلون أنظمة الكتابة في جهودهم لتعزيز اللغات المنطوقة والمكتوبة. إذ اعتاد علماء اللغة إهمال النصوص المتنوعة والرائعة التي تهددها الأنظمة المهيمنة مثل اللاتينية والعربية والديفاناغاري والصينية. بالإضافة إلى أعماله البحثية والدعوية، يصنع بروكس منحوتات خشبية رائعة لهذه النصوص. وهو، مثل بيرلن، يحرص دائما على أن المستخدمين الأصليين للغة هم محور السرد. إذ لم يعد هناك مجال للروايات التي تصور المنقذين البيض بعد الآن.

حالات انقراض اللغات تحدث غالبا في بلدان غير ديمقراطية وليس لديها وقت كاف للاهتمام بالأقليات

أما جوليا سالابانك، عالمة اللغويات في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، فحددت المقاربات التاريخية للغات المهددة بالانقراض. ففي السابق، كان اللغويون الغربيون يأتون ويجمعون المعلومات ومن ثم ينشرون نتائجهم في بلادهم. ومع مرور الوقت، بدأ الأكاديميون في إنتاج كتب القواعد والقواميس والتسجيلات ليتسنى لمتحدثي اللغات استخدامها ونقلها للأجيال. في الآونة الأخيرة، أصبح التعاون أمرا مركزيا، إذ بات العلماء والناشطون يتعاونون معا لتحديد ما هو مطلوب بالضبط لتزدهر اللغة.

Ross Perlin

تبيّن أن الخطوة الأخيرة هي الأصعب، أي العمل من داخل مجتمع اللغة، حيث يتولى القادة زمام العملية في حين تقدم الأطراف الخارجية التمويل والمشورة. وعلى الرغم من أن هذا النهج يمثل السيناريو المثالي لتنشيط اللغة، إلا أنه ليس عالميا على الإطلاق. فهو قابل للتنفيذ في أماكن مثل أميركا وأستراليا، أي البلدان الغنية التي بدأت بالاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت في حق شعوبها الأصلية. لكن حالات انقراض اللغات تحدث غالبا في بلدان غير ديمقراطية وليس لديها وقت كاف للاهتمام بالأقليات. ولكن، يمكن الخبراء الغربيين أن يلعبوا دورا حاسما من خلال رفع مستوى الوعي والاستفادة من الدروس من تاريخهم.

font change

مقالات ذات صلة