تحتل المجزرة في الرواية العربية– الفلسطينية للصراع مع إسرائيل، موقعا مركزيا في تصوير سلوك الإسرائيليين، كجيش ومستوطنين ومواطنين عاديين. الشعارات التي رددها السياسيون والمتظاهرون، في الكنيست ومقر الحكومة وفي الشوارع، تترك انطباعا بسعة تأييد العنف الأعمى ضد "العدو" سواء انضوى في منظمة فلسطينية مسلحة أم لا.
ضحايا القصف الإسرائيلي على مخيم النازحين في رفح والبالغ عددهم 45 شخصا، بحسب الأنباء الآتية من القطاع، أضيفوا على 36 ألف شخص جلهم من المدنيين والنساء والأطفال فقدوا حياتهم بفعل الهجوم الإسرائيلي على القطاع الذي جاء ردا على "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وسرعان ما لحقهم بعد ساعات قليلة 21 جدد في قصف خيام نازحين في مكان قريب. أما وصول الدبابات الإسرائيلية إلى وسط رفح فيقول إن العملية العسكرية مستمرة رغم التحذيرات الدولية من تحول التوغل في المدينة المكتظة بالنازحين إلى مجزرة هائلة الأبعاد.
لائحة طويلة من عمليات القتل الجماعي الإسرائيلية تحتوي عليها الذاكرة العربية والفلسطينية. دير ياسين والطنطورة وكفر قاسم وبحر البقر وقانا وغيرها، أسماء مستقرة في الذاكرة وتشكل بعض أركان الصورة الإسرائيلية في الوعي العربي ولن تمحوها السنوات. فهي إن غابت بفعل الزمن، ستعود إلى الواجهة ما إن يقع ما يشبهها. بل يمكن تصنيفها وتبويبها في مجالات الأهداف التي أريد تحقيقها من ورائها: التطهير العرقي سنة 1948، ترهيب السكان الذين رفضوا مغادرة أرضهم (كفر قاسم)، إفهام مصر بلا جدوى حرب الاستنزاف (بحر البقر)... إلخ.
كتابات "المؤرخين الجدد" الذين أعادوا النظر في تاريخ إنشاء إسرائيل وحربها الأولى و"استقلالها" عن بريطانيا، أوضحوا أن المجزرة لم تكن دائما "حادثا كارثيا" على نحو ما قال بنيامين نتنياهو أثناء إعلانه ما وقع للنازحين في رفح واعدا بالتحقيق فيه وكأنه حادث سيارة في مكان مزدحم. الوثائق التي يفرج عنها من الأرشيف الإسرائيلي نادرا ما تتحدث عن المجازر والقتل الجماعي. لكن بعض "المؤرخين الجدد" لم يستغربوا ذلك، معتبرين أن هذا النوع من الأعمال لا يسجل عادة في الوثائق الرسمية. بل إن إشارة بالرأس، غمزة، تلويحا باليد، تكفي في أغلب الأحوال ليفهم الجنود أنهم أحرار في تصفية المدنيين. وليست بعيدة المحاكمات التي بُرئ أو نال فيها الجنود والمستوطنون أحكاما مخففة بعد قتلهم مدنيين فلسطينيين في الضفة الغربية.
كتابات "المؤرخين الجدد" الذين أعادوا النظر في تاريخ إنشاء إسرائيل وحربها الأولى و"استقلالها" عن بريطانيا، أوضحوا أن المجزرة لم تكن دائما "حادثا كارثيا" على نحو ما قال بنيامين نتنياهو
كل هذا معروف. ويجب أن يضاف إليه أن استخدام العنف عند المستوى السياسي الإسرائيلي لا يرتبط دائما بالضرورات العملياتية وما تمليه أحكام القتال ومجرياته. بل إن الإسرائيليين يبدون مصرين أكثر من غيرهم على اعتبار العنف درسا يحمل رسالة للطرف الآخر. بهذا المعنى، تحضر المجزرة والإفراط في اللجوء إلى القوة ضد أهداف غير متناظرة من أجل ردع "العدو" عن خططه.
لكنّ ثمة جانبا آخر للسلوك هذا. فهو ليس موجها إلى الفصائل الفلسطينية والمدنيين الفلسطينيين فحسب، بل يبدو كإحياء لنظرية "الرجل المجنون" التي اعتمدها الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيسكون أثناء مواجهته مع الاتحاد السوفياتي، حيث سعت الإدارة الأميركية إلى تصوير نيسكون على أنه صاحب مواقف غير متوقعة وقد يلجأ إلى إجراءات مفاجئة، منها استخدام السلاح النووي في حال تفاقم الضغط عليه.
وإذا زيدت التهديدات الإسرائيلية شبه اليومية بتدمير لبنان و"تحويله إلى غزة جديدة"، إلى تصريحات مشابهة شملت البرنامج النووي الإيراني، فسيبدو أن الحكومة الإسرائيلية لا مانع لديها من نعتها بـ"الرجل المجنون" الذي قد يقدم على أي عمل في سبيل تحقيق أهدافه.
بل الأرجح أن الإسرائيليين يبنون "رأسمالا رمزيا" من تصوير جيشهم كوحش ضار لا يوقفه شيء، لا وقف شحنات القنابل الأميركية، ولا اعتراف الدول الأوروبية الثلاث بالدولة الفلسطينية، ولا تحذيرات الاتحاد الأوروبي، ولا قرارات محكمة العدل الدولية، عن بلوغ هدفه المعلن بالدخول إلى رفح وتصفية قيادات "حماس" التي يقول إنها تختبئ فيها.
لا شك في أن رأس المال الرمزي هذا سيستخدم في كل المفاوضات المقبلة وسيوظف كدليل على تصميم إسرائيل على تحقيق غاياتها مهما كلف الأمر.