القاهرة... محنة مدينة عظيمة
تساهم بنسبة 33,8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر
القاهرة... محنة مدينة عظيمة
تظل القاهرة عاصمة للعرب من مختلف دولهم. هي المزار الأساس لغالبية القادمين إليها من دول الخليج أو من بلاد الشام أو من شمال أفريقيا. المصريون، خصوصاً القاهريين، تصاهروا مع عائلات من مختلف الجنسيات العربية، وبشكل واضح. ينتمي سكان القاهرة الى مختلف المحافظات المصرية، منهم من قدم من أقصى الصعيد، وهناك من جاء من محافظات أو مدن الدلتا، وثمة الاسكندرانيون في طبيعة الحال. تفاعل هؤلاء ليكونوا مجتمعاً قاهرياً متجانساً ويبدعوا اللهجة القاهرية، وإن تفاوتت لكناتها بين أبناء الذوات وأبناء الأحياء الشعبية.
إقرا أيضا: عُصْبَة فكريّة في القاهرة
أصبحت القاهرة على مدار العقود الماضية أهم مركز تعليمي في البلاد، حيث تصدرت جامعاتها، "القاهرة" و"عين شمس" و"الجامعة الأميركية"، أبرز مراكز التعليم العالي في مصر، وتمكن المصريون والآلاف من الطلبة العرب من تحصيل تعليمهم الجامعي في تلك الجامعات التي لا تزال تعد من الجامعات الجيدة على المستوى العالمي. يضاف إلى ذلك أن النشاط الاقتصادي في القاهرة يمثل نسبة مهمة في الناتج المحلي الإجمالي لمصر، كما هي الحال بالنسبة الى نيويورك أو كاليفورنيا في الناتج المحلي الإجمالي الأميركي.
تذكر المراجع التاريخية أن وجود مدينة القاهرة بدأ مع بداية الفتح الإسلامي لمصر عام 641 ميلادية تحت قيادة عمرو بن العاص. الإسكندرية أقدم من القاهرة، وكانت تعد عاصمة مصر في العصور البلطمية والرومانية والبيزنطية. عندما فتح العرب مصر أقاموا مدينة جديدة أطلقوا عليها مسمى "الفسطاط"، التي أصبحت العاصمة الإدارية ومركز قيادة الحامية العسكرية. أقيمت المدينة عند حصن بابليون في محاذاة لنهر النيل، وأطلق عليها إسم حي مصر القديمة، وتقع جنوب غرب القاهرة.
حافظ المصريون على المظاهــر الفاطمية في العمارة، بل يمكن ملاحظة الطقوس الفاطمية المنتشرة بين المصريين حتى يومنا هذا، على الرغم من عدم قبولها من فئات عديدة من المسلمين
ازدهرت القاهرة في عهد الفاطميين، فقد انتقلت الخلافة الفاطمية من تونس إلى مصر وانتقل إليها الخليفة المعز لدين الله الفاطمي في عام 972 بعدما فتحها القائد جوهر الصقلي في عام 968 ميلادية. تميز العصر الفاطمي بازدهار الفنون والعلوم، وتمكن الفاطميون من توسيع سيطرتهم بعد فتح الإسكندرية. ظلت القاهرة المركز الأساس للحكم الفاطمي الذي عمل على تحصينها وبناء سور حولها لحمايتها من أي هجمات معادية من الشمال أو الشرق. وحافظ المصريون على المظاهــر الفاطمية في العمارة، بل أكثر من ذلك، يمكن ملاحظة الطقوس الفاطمية المنتشرة بين المصريين حتى يومنا هذا.
إقرأ أيضا: الرابحون و"المنتظرون" في رحلة مصر الشاقة نحو التعافي الاقتصادي
راحت القاهرة تشهد تطورات مهمة منذ بداية القرن العشرين عندما تدفق إليها مهاجرون من مختلف الدول وخصوصاً من بلاد الشام وإيطاليا واليونان. أقام العديد من هؤلاء المهاجرين منشآت وأسسوا الأعمال المتنوعة وساهموا في فتح مؤسسات الإعلام وشاركوا في أعمال المصارف، ناهيك عن مشاركتهم في الإنتاج السينمائي الوليد.
مقارنة القاهرة بباريس وروما
ساهم النقل العام في القاهرة في تمكين التواصل وتعزيز النشاط الاقتصادي، ويذكر المؤرخون أن الترام كان أهم وسائط النقل منذ نهاية القرن التاسع عشر حيث تم تشغيل قاطراته يوم 12 أغسطس/آب 1896، فتجاوزت القاهرة بعد ذلك وسائل النقل الأخرى البدائية مثل الحمير والعربات التي تجرها الخيول، لتتميز بوسائط نقلها عن العديد من المدن والعواصم العربية الأخرى بحيث باتت تضاهي المدن الأوروبية، إذ كان شائعا عندئذ مقارنة القاهرة بباريس أو روما. لا شك أن تلك التطورات أدت إلى نتائج اقتصادية واجتماعية وديموغرافية واضحة في الحياة القاهرية.
شيد كثير من الوافدين في أطراف المدينة المباني العشوائية من دون ترخيص، مما زاد كثافة السكان وتشويه المدينة وضغط على سوق العمل
توسعت القاهرة جغرافيا وسكانيا على مدى يزيد على 150 عاما. في عهد الخديوي إسماعيل الذي حكم خلال الفترة الممتدة من 1863 إلى 1879 لم يزد عدد سكان القاهرة على 270 ألف نسمة. الآن، وبموجب إحصاءات رسمية يبلغ عدد سكان محافظة القاهرة، 10,3 ملايين نسمة، وتأتي محافظة الجيزة المحاذية لها في المرتبة الثانية في مصر بـ9,5 ملايين نسمة.
انتشار سكاني
يؤكد الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء المصري أن المجتمع في القاهرة يظل مجتمعاً فتياً. خلال سنوات القرن العشرين توافد المصريون من مختلف المحافظات إلى القاهرة، وخصوصاً من الأرياف، وتزايدت أعدادهم بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي اثر ثورة يوليو/تموز 1952. أقام الكثير من الوافدين في أطراف المدينة وشيدوا المباني العشوائية دون ترخيص من البلديات، مما زاد كثافة السكان وتشويه المدينة. وضغط المهاجرون إلى القاهرة على سوق العمل وتزايدت أعداد المهن غير الفنية أو المتواضعة.
لا شك أن هناك مبررات اقتصادية واجتماعية دفعت إلى الهجرة إلى القاهرة نظراً الى انعدام فرص العمل وتراجع النشاط في القطاع الزراعي في الكثير من القرى. وتوقع الكثير من الوافدين أو المهاجرين أن يتمكنوا من الحصول على فرص فيما سيتمكن الأبناء من التحصيل التعليمي في مدارس القاهرة وجامعاتها.
تتنوع الأنشطة الاقتصادية في القاهرة وهي تشمل إنتاج النفط والغاز والتعدين والمواد الكيميائية والصناعات التحويلية والمنسوجات ومواد غذائية
كانت القاهرة حاضرة مصر في مختلف العهود وجذبت المواطنين من الأرياف والمدن الصغيرة الأخرى، وفي الوقت ذاته جذبت الكثير من العرب من دول أخرى مدى أكثر من قرنين.
حضور ديموغرافي ودور اقتصادي
هذا الحضور الديموغرافي المهم قابله تطور في الدور الاقتصادي للقاهرة فأصبحت تساهم بنسبة 33,8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر. تتوزع الأنشطة الاقتصادية في مختلف مناطق القاهرة وهي تشمل إنتاج النفط والغاز والتعدين والمواد الكيميائية والصناعات التحويلية التي تشمل صناعات معدنية وأدوات كهربائية ومنسوجات ومواد غذائية. بالإضافة إلى ذلك، هناك نشاط التوزيع السلعي للمواد والبضائع والسلع بالإضافة الى الأنشطة الخدمية التي تشمل الخدمات الفندقية والمطاعم. لكن هذه الأنشطة تظل بعيدة إلى درجة ما عن التطبيقات التقنية الحديثة.
إقرأ أيضا: مصر تطمح للتفوق الإقليمي في صناعة الرقائق الذكية
كما أن مستويات التدريب لا تزال تقليدية ولم يتم استيعــاب التطورات الحديثة بشكل جيد. ويأمل المسؤولون أن تصبح القاهرة، ومصر بشكـل عام، أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب والشركات العالمية الكبرى، بما يعزز تطور العمالة وارتقاءها في مصر ويحسن جودة الإنتاج السلعي ويمكن من تطور الخدمات السياحية بما يحقق النتائج المرجوة ويرفع معدلات النمو الاقتصادي.
صارت القاهرة المركز الرئيس للثقافة العربية والتحصيل التعليمي في مصر والدول العربية، بعدما باتت عاصمة السينما العربية
أصبحت القاهرة المركز الرئيس للثقافة العربية والتحصيل التعليمي في مصر والدول العربية، بعدما باتت عاصمة السينما العربية منذ النصف الأول من القرن العشرين. لكن هذه السمات قابلتها مشكلات، منها الازدحام السكاني وتعطل طاقة البنية التحتية التي يمكن أن تستوعب المتغيرات السكانية. لذلك، قررت الحكومة المصرية إقامة العاصمة الإدارية على تخوم القاهرة. يهدف المشروع إلى إنشاء مدينة عصرية ذكية تستوعب من 18 مليون نسمة إلى 40 مليون نسمة في حلول عام 2050. تقع المدينة الجديدة بين طريقي السويس والقاهرة وطريق القاهرة العين السخنة. ولا يزال الكثير من المصريين، وسكان القاهرة تحديداً، غير مقتنعين في شأن انتقال الأعمال والدوائر الحكومية إلى المدينة الجديدة. لكن مشكلات البنية التحتية وازدحام الطرق، خصوصاً في ساعات الذروة النهارية، لا بد أن تكون حتمت التفكير في العاصمة الإدارية، كما حدث في دول أخرى.
يتوقع المرء أن يظل القاهريون في مساكنهم وفي أحياء مدينتهم. كما أن العديد من الأعمال ستبقى محافظة على عناوينها في المدينة، هذا ناهيك عن المزارات الدينية والمقابر. كما سيظل السياح متمسكين بزياراتهم للقاهرة الجميلة.