كلّما عاودتَ قراءة مالارميه، كأنّما لتستغرق في ذلك الجهد المتجدّد الخلاب، الذي لا يكتفي بعجزه عن التقاط مفاتيح القصيدة، بل يبحث من جديد في فضاء شاسع، عن ضوء أو مدخل، لكن عبثا، إنه الغامض الساحر في غموضه، والمُحيل غموضه على نرجسيّة الشعر، وعلى "قداسته"، وعلى مساحته النقيّة المتطهّرة والمصفّاة، وعلى مداه المتجاوز العارض والتفصيلي، واليومي والوصفي، وكل ما يعلق به من غبار الكلام الشائع، ومن أطنابه، ومن تفاسيره، مثالا منحوتا، شيئا ملموما على أسراره.
أوّل درس تعلّمه المعلّم مالارميه من معلّمه الأول بودلير أن الشعر هو مسألة لغة قبل كل شيء. إنه الافتتاح البودليري الكبير في ما يسمى الحداثة الشعرية المعاصرة، القائمة على تحرير اللغة من ثنائيّة المادة - الشكل، الحالة - التعبير، أي تجاوز ثنائيّة ما كان سائدا: الرومنطيقية - الكلاسيكية. وهذا يعني أنّ ثمّة صراعا بروميثيوثيّا مع اللغة، صراعا مع مطلق ما، صراعا يشوبه شعور بالعجز، يؤدي إلى ذلك التحدّي الكبير، غير المحدّد للغة، أي تصبح اللغة مادة أوّلية، تخضع لسلطة الشاعر، يعدمها بعلاقاتها التاريخيّة، وبإيقاعاتها المتوارثة، وبأنماطها السيّارة، المألوفة، ليعيد تأليفها وتركيبها وصوغها، كما يتعامل مع أيّ مادة أخرى.
وهذا ما يتخطّى به علاقة الشاعر الرومنطيقي القائمة على محو سلطة الشاعر أمام "نزول" القصيدة، أو هبوطها كاملة من دون تدخّله... لتنتصر الحالة على الشاعر وعلى اللغة التي ترتهن بتبعيّة لما هو "فوق" الشاعر، ويتخطّى كذلك "الواقعيّة" التي تبدو فيها اللغة وشاعرها، مجرّد وسيلتين واقعيّتين، وهنا يلتقي مالارميه ومعه بودلير إلى حدّ ما البرناسيين من حيث فصل اللغة عن الحالة وعن الحياة أو الواقع فتكون عندها "هدف ذاتها"، لكن اختزالها إلى ذاتها عند البرناسيّين يُفرغها من "الحياة" نفسها، يُحيلها لغة مكتفية بفقرها الشكلي.