الشاعر الفرنسي مالارميه... كتابة العدم

AFP
AFP
الشاعر ستيفان مالارميه في مكتبه، عام 1893.

الشاعر الفرنسي مالارميه... كتابة العدم

كلّما عاودتَ قراءة مالارميه، كأنّما لتستغرق في ذلك الجهد المتجدّد الخلاب، الذي لا يكتفي بعجزه عن التقاط مفاتيح القصيدة، بل يبحث من جديد في فضاء شاسع، عن ضوء أو مدخل، لكن عبثا، إنه الغامض الساحر في غموضه، والمُحيل غموضه على نرجسيّة الشعر، وعلى "قداسته"، وعلى مساحته النقيّة المتطهّرة والمصفّاة، وعلى مداه المتجاوز العارض والتفصيلي، واليومي والوصفي، وكل ما يعلق به من غبار الكلام الشائع، ومن أطنابه، ومن تفاسيره، مثالا منحوتا، شيئا ملموما على أسراره.

أوّل درس تعلّمه المعلّم مالارميه من معلّمه الأول بودلير أن الشعر هو مسألة لغة قبل كل شيء. إنه الافتتاح البودليري الكبير في ما يسمى الحداثة الشعرية المعاصرة، القائمة على تحرير اللغة من ثنائيّة المادة - الشكل، الحالة - التعبير، أي تجاوز ثنائيّة ما كان سائدا: الرومنطيقية - الكلاسيكية. وهذا يعني أنّ ثمّة صراعا بروميثيوثيّا مع اللغة، صراعا مع مطلق ما، صراعا يشوبه شعور بالعجز، يؤدي إلى ذلك التحدّي الكبير، غير المحدّد للغة، أي تصبح اللغة مادة أوّلية، تخضع لسلطة الشاعر، يعدمها بعلاقاتها التاريخيّة، وبإيقاعاتها المتوارثة، وبأنماطها السيّارة، المألوفة، ليعيد تأليفها وتركيبها وصوغها، كما يتعامل مع أيّ مادة أخرى.

وهذا ما يتخطّى به علاقة الشاعر الرومنطيقي القائمة على محو سلطة الشاعر أمام "نزول" القصيدة، أو هبوطها كاملة من دون تدخّله... لتنتصر الحالة على الشاعر وعلى اللغة التي ترتهن بتبعيّة لما هو "فوق" الشاعر، ويتخطّى كذلك "الواقعيّة" التي تبدو فيها اللغة وشاعرها، مجرّد وسيلتين واقعيّتين، وهنا يلتقي مالارميه ومعه بودلير إلى حدّ ما البرناسيين من حيث فصل اللغة عن الحالة وعن الحياة أو الواقع فتكون عندها "هدف ذاتها"، لكن اختزالها إلى ذاتها عند البرناسيّين يُفرغها من "الحياة" نفسها، يُحيلها لغة مكتفية بفقرها الشكلي.

أوّل درس تعلّمه مالارميه من معلّمه الأوّل بودلير أن الشعر هو مسألة لغة قبل كل شيء

وإذا عرفنا أن مالارميه (كبودلير) من المتأثرين بإدغار ألن بو، الأول بصرامته، والثاني بمناخاته الملتبسة، القاسية والعنيفة، أدركنا تلك المؤثرات التي رافقت مالارميه في بداياته وحتى وقت متأخّر، تمكّن شيئا فشيئا من التحرّر منها، وإدراك تخومه الخاصة، أي رمزيّته وغموضه، ومفهومه "الصعب" للقصيدة.

التأثّرات

صحيح أن مالارميه أطلّ بملامح غير واضحة في قصائد تأثّر فيها ببودلير لـ"الأثير" و"النوافذ"، و"النسيم البحري"، وصحيح أنّه "قلّد" إدغار بو، وحتى هوغو، إلا أنه في كل ذلك كأنّما كان يهيّئ نفسه، بهدوء من تثور في داخله العواصف، لمغامرته الكبرى، التي بدأت تباشيرها في "هيرودياد"، و"بعد ظهيرة حيوان بري" التي بدأ فيها بالتخلّي عن البوحيّة الرومنطيقيّة، والسلاسة البودليرية الموحية والعميقة، إلى ما يمكن أن نسمّيه "الالتباس الكبير في التعبير" أو ما يعرف بـ"الغموض"، أو انغلاق القصيدة على ذاتها، لكن هاتين القصيدتين، "هيرودياد" التي بدأها مالارميه كتراجيديا ولم يكتب منها سوى المدخل. أي مونولوغ، ومشهد بين هيرودياد والمربية، ووسيط غنائي، حيث تمثل "هيرودياد" ذلك الجمال غير المدرك الذي يراود الشاعر. ونظنّ أنّ لعبة المرأة (تحت تأثير أسطورة نرسيس اليونانية) ستكون زادا لفاليري في ما بعد في قصائد عدّة أبرزها "نرسيس".

AFP
صورة غير مؤرخة تظهر مالارميه في 14 ديسمبر 2010 في دار سوثبي للمزادات في باريس

وعندما تقرأ القصيدتين "هيرودياد"، و"بعد ظهر حيوان بري"، يتبيّن لك بوضوح بداية "قسوة" مالارميه على اللغة (من باب السيطرة على الطبيعة كتطلّع ميتافيزيقي في الأصل)، وإحداث شروخ في الأبنية اللغويّة المعهودة، وبتر التراكيب المنسابة أو البوحية، من ضمن السياقات المتراكمة. أي أنه بدأ بـ"قمع" المعطى الشعري/ اللغوي السائد ليعلن سيادة الشاعر على الصدفة (عنصر أساسي عند الرومنطيقيين ومن بعدهم الدادائيّين والسورياليّين، كتعبير آخر عن "تفوّق" الإنسان - الشاعر - الكائن على الحياة.

القسوة

إنها اللحظات القصوى التى أسّست للرمزيّة نفسها والتي تبرز كذلك في قصائد أخرى حيث يُومض في تشحيل القصيدة من زوائدها وتراكماتها ورواسبها، مطلّا بعلوّ شاهق وعنيف على لغة يصل بها النقاء إلى نقطة تتجاوز الزمني والمكاني إلى مطلق (هنا يذكّرنا ببودلير ورامبو ولوتريامون وحتى فيرلين)، يصل فيه التعبير الشعري غير المباشر إلى جوهر الأشياء و"أفكارها" وموحياتها، إلى "جوهر النقاء" بالمعنى الذي "يتكلم فيه الفيزيائي عن الماء النقي" (على حدّ تعبير مالارميه نفسه)، لخلق حالة انفعالية في النفس.

هذه المغامرة العالية والشاهقة تقطع المسافة الميلودراميّة إلى ما يشبه الهاوية، أو الفراغ الشاسع في "رمية نرد"

هذه الحالة الانفعاليّة، أو المناخات الشعوريّة (نتذكر هنا العنصر الموسيقي عند فيرلين والصوري عند رامبو)، تكونها علاقات الكلمات والأحرف الفيزيائيّة، وإيقاعاتها وأصداؤها وموسيقاها، أي كيميائيّة تستغل الطاقات الكامنة داخل اللغة. إنها "لغة داخل اللغة" (على حدّ تعبير فاليري في ما بعد) تذهب أبعد من الجماليّة الخارجيّة، نحو رمزيّة توحي اللانهائي واللامحدود والمجهول. ونظنّ أن قصيدته "إيجيتور" هي التعبير الأوضح عن هذا التوق الجديد، والممارسات الجديدة، والكسر المتنامي والمتعاظم والمتمادي مع الرومنطيقيّين والواقعـيّين وحتى مع البرناسيين، في حركة محمومة نحو المطلق، ونحو جوهر الشعر، ونحو النقطة القصوى في اللغة، كمحاولة "لإذابة الكائن في الكلمة". كأنّما فيها قمّة الصراع مع العناصر والطبيعة واللغة.

رمية نرد

على أن هذه المغامرة العالية والشاهقة تقطع المسافة الميلودراميّة إلى ما يشبه الهاوية، أو الفراغ الشاسع في "رمية نرد"، وهي القصيدة الأخيرة التي كتبها قبل رحيله بعام تقريبا. فكأنّه كان في "إيجيتور" ينحت العدم بإتقان اليأس الدونكيشوتي، ليبدّد هذا العدم بإتقانه العاجز الهاملتي، وكم يذكّرني هنا ببيكيت... فكأنّه حقّق في الشعر ما حقّق بيكيت في المسرح في الخمسينات: إدراك أقصى نقطة من عجز الكائن أمام العالم وأمام اللغة.

في "رمية نرد" ارتطام في جدران متضاعفة ومتماسكة، واكتمال الصراع المحموم بين الشاعر والطبيعة - بين الشاعر واللغة، بين الشاعر والصدفة. أي جعل القصيدة كائنا مخلوقا حيّا في ذاته، مستقلا عن الحياة. كأنّه الجولة الأخيرة على هذه الحلَبَة المقدّسة؛ جولة راهن فيها مالارميه على اللغة  نفسها، وعلى تركيب القصيدة وبنيتها وكسورها، جمع فيها العنصر البصري، توزيع الكلمات وترتيبها على الصفحة، والحروف الطوبوغرافيّة المطبوعة (متأثرا بالملصقات)، وكذلك العنصر الموسيقي لارتباط هذا التوزيع البصري بالإيحاء الإيقاعي للجملة الشعرية. قسوة أخرى على اللغة، فبعدما بلبل البحر الألكسندري وسواه، وحطّم كثيرا من سياقاته التقليديّة، ها هو يصل إلى معادلة أخرى، يجرّد فيها اللغة من أمكنتها الخاصة، ليطلقها ربّما في حركة "رمية نرد" على فضاء معذب على جمالية مزروعة في فراغ الورقة. ها هو يرصف الكلمات على البياض، يوزّع البياض (كعمق اللوحة)، يغيّر جسد الأحرف، يقسّم الموسيقى على فضاء تشكيلي كثيف، سمفونيّة طوبوغرافيّة تعلن أوّل قطيعة كبيرة مع كلّ ما سبق، وتعلن أيضا أوّل قطيعة كبرى مع القارئ العادي أو مع الجمهور الشعري العريق.

"رمية نرد"، الخروج الثاني الكبير لمالارميه (بعد "إيجيتور") عن كلّ ما سبقه، وهو النزول البطيء إلى الهاوية، إلى الارتطام بالعدم، إلى سقوط ذلك التحدي الميتافيزيقي الكبير في السيطرة على الطبيعة، وها هو يصرخ (كأنّها صرخته الأخيرة): "رمية النرد لا تلغي الصدفة". فشل ميتافيزيقي، وشعور بالعجز الشعري (في بداياته وصف نفسه بـ"بطل العجز")... وهزمَتْه الصدفة والطبيعة والحياة. أَلمْ يكن يريد أن يحلّ الشعر محلّها، لأنه "الجوهر"، ولأنّه "الجمال" و"المطلق"، لكن فشله الميتافيزيقي هو الافتتاح الشعري الواسع الذي طبع القرن العشرين بطوابعه، مع رامبو ولوتريامون وقبلهم جميعا بودلير، رأس هذه السلالة "الملعونة" المفتوحة على العدم، هذه السلالة فريسة الصراع مع المطلق، والباحثة بلا جدوى عن حياة أخرى.

غابات المخيلة

وإذا كان رامبو ومعه لوتريامون شقّا غابات المخيّلة والجنون والاحتجاج والصخب والشراسة، وشرّعا اللغة على مكبوتاتها وغرائبها، ودمّرا علاقاتها في فضاءات مجهولة بالصورة قبل كل شيء، حتى أدركا الصمت (رامبو هجر الشعر والبـلاد، ولوتريامون قضى وهو في الرابعة والعشرين) تماما كشاعر إيجيتور، فإن سلالة غزيرة الأنساب والإصغاء طلعت منهما: الحركات المستقبليّة والدادائيّة والسورياليّة، في أوروبا وفي العالم العربي، و"جيل البيت" في أميركا.

السلالة الأخرى وربما الأخطر هي التي خرجت من التجربة المالارمويّة، في علاقاتها باللغة، وبفراغ الصفحة وبالرمزيّة، وبالقطيعة مع الآخر والسهل: تبدأ بفاليري وتُكمل بأبولينير (قصائده البصريّة) وتزارا ومارينيتي، وبأتباع القصيدة الصوتيّة، والضوضائيّة، والبصريّة، وصولا إلى فرنسيس بونج و"انحيازه إلى الأشياء"، ودوبوشيه ودنيس روش، وميشال دوغي، وحتى فيليب سولرز وإيف بونغو ودوبزنسكي ومونييه وجاك روبو.

لا سيّد حقيقيّا في الشعر إلا من يختار أوّلا عزلة الشعر في جوهره

لا يزال الشعر يتعلّم منه الكثير، هذا الذي تنسّك للشعر وتعبّد له، مارس طقوسه "السرّية" وشعائره، ذاك الذي جعل من الشعر المثال لا بالمعنى الأخلاقي المعروف أو الاجتماعي أو السياسي بل بالمعنى الميتافيزيقي المطلق، خارج الإلزامات والالتزامات البرّانية، ينبوع يتدفّق من ذاته وإلى ذاته فكل علاقة هي به، وكلّ رسالة إليه، حتى القطيعة مع كلّ ما ليس فيه ومنه وإليه. حتى الحياة نفسها في وشائجها المختلفة. عزلة الشعر من عزلة الشاعر. عزلة الشعر القصوى. وإن القصيدة لا تمضي إلا إلى ذاتها، لا إلى جمهور جاهز، ولا إلى قارئ محدّد. كلّ شيء منفي حولها، ووراءها، فلنقل إنها لعبة المستحيل.

إنّه شعر السيّد في الشعر، إذ لا سيّد حقيقيّا في الشعر إلا من يختار أوّلا عزلة الشعر في جوهره، وعزلة الشاعر في قصيدته، والبقيّة مجد باطل، وأفراح زائفة.

مالارميه هو سيّد من هؤلاء الأسياد… سيّد بين أسيّاد كبار كبودلير ولوتريامون ورامبو... وكلّ هذه السلالة الخصبة الممتدّة حتى اليوم.

font change

مقالات ذات صلة