هذه الحالة الانفعاليّة، أو المناخات الشعوريّة (نتذكر هنا العنصر الموسيقي عند فيرلين والصوري عند رامبو)، تكونها علاقات الكلمات والأحرف الفيزيائيّة، وإيقاعاتها وأصداؤها وموسيقاها، أي كيميائيّة تستغل الطاقات الكامنة داخل اللغة. إنها "لغة داخل اللغة" (على حدّ تعبير فاليري في ما بعد) تذهب أبعد من الجماليّة الخارجيّة، نحو رمزيّة توحي اللانهائي واللامحدود والمجهول. ونظنّ أن قصيدته "إيجيتور" هي التعبير الأوضح عن هذا التوق الجديد، والممارسات الجديدة، والكسر المتنامي والمتعاظم والمتمادي مع الرومنطيقيّين والواقعـيّين وحتى مع البرناسيين، في حركة محمومة نحو المطلق، ونحو جوهر الشعر، ونحو النقطة القصوى في اللغة، كمحاولة "لإذابة الكائن في الكلمة". كأنّما فيها قمّة الصراع مع العناصر والطبيعة واللغة.
رمية نرد
على أن هذه المغامرة العالية والشاهقة تقطع المسافة الميلودراميّة إلى ما يشبه الهاوية، أو الفراغ الشاسع في "رمية نرد"، وهي القصيدة الأخيرة التي كتبها قبل رحيله بعام تقريبا. فكأنّه كان في "إيجيتور" ينحت العدم بإتقان اليأس الدونكيشوتي، ليبدّد هذا العدم بإتقانه العاجز الهاملتي، وكم يذكّرني هنا ببيكيت... فكأنّه حقّق في الشعر ما حقّق بيكيت في المسرح في الخمسينات: إدراك أقصى نقطة من عجز الكائن أمام العالم وأمام اللغة.
في "رمية نرد" ارتطام في جدران متضاعفة ومتماسكة، واكتمال الصراع المحموم بين الشاعر والطبيعة - بين الشاعر واللغة، بين الشاعر والصدفة. أي جعل القصيدة كائنا مخلوقا حيّا في ذاته، مستقلا عن الحياة. كأنّه الجولة الأخيرة على هذه الحلَبَة المقدّسة؛ جولة راهن فيها مالارميه على اللغة نفسها، وعلى تركيب القصيدة وبنيتها وكسورها، جمع فيها العنصر البصري، توزيع الكلمات وترتيبها على الصفحة، والحروف الطوبوغرافيّة المطبوعة (متأثرا بالملصقات)، وكذلك العنصر الموسيقي لارتباط هذا التوزيع البصري بالإيحاء الإيقاعي للجملة الشعرية. قسوة أخرى على اللغة، فبعدما بلبل البحر الألكسندري وسواه، وحطّم كثيرا من سياقاته التقليديّة، ها هو يصل إلى معادلة أخرى، يجرّد فيها اللغة من أمكنتها الخاصة، ليطلقها ربّما في حركة "رمية نرد" على فضاء معذب على جمالية مزروعة في فراغ الورقة. ها هو يرصف الكلمات على البياض، يوزّع البياض (كعمق اللوحة)، يغيّر جسد الأحرف، يقسّم الموسيقى على فضاء تشكيلي كثيف، سمفونيّة طوبوغرافيّة تعلن أوّل قطيعة كبيرة مع كلّ ما سبق، وتعلن أيضا أوّل قطيعة كبرى مع القارئ العادي أو مع الجمهور الشعري العريق.
"رمية نرد"، الخروج الثاني الكبير لمالارميه (بعد "إيجيتور") عن كلّ ما سبقه، وهو النزول البطيء إلى الهاوية، إلى الارتطام بالعدم، إلى سقوط ذلك التحدي الميتافيزيقي الكبير في السيطرة على الطبيعة، وها هو يصرخ (كأنّها صرخته الأخيرة): "رمية النرد لا تلغي الصدفة". فشل ميتافيزيقي، وشعور بالعجز الشعري (في بداياته وصف نفسه بـ"بطل العجز")... وهزمَتْه الصدفة والطبيعة والحياة. أَلمْ يكن يريد أن يحلّ الشعر محلّها، لأنه "الجوهر"، ولأنّه "الجمال" و"المطلق"، لكن فشله الميتافيزيقي هو الافتتاح الشعري الواسع الذي طبع القرن العشرين بطوابعه، مع رامبو ولوتريامون وقبلهم جميعا بودلير، رأس هذه السلالة "الملعونة" المفتوحة على العدم، هذه السلالة فريسة الصراع مع المطلق، والباحثة بلا جدوى عن حياة أخرى.
غابات المخيلة
وإذا كان رامبو ومعه لوتريامون شقّا غابات المخيّلة والجنون والاحتجاج والصخب والشراسة، وشرّعا اللغة على مكبوتاتها وغرائبها، ودمّرا علاقاتها في فضاءات مجهولة بالصورة قبل كل شيء، حتى أدركا الصمت (رامبو هجر الشعر والبـلاد، ولوتريامون قضى وهو في الرابعة والعشرين) تماما كشاعر إيجيتور، فإن سلالة غزيرة الأنساب والإصغاء طلعت منهما: الحركات المستقبليّة والدادائيّة والسورياليّة، في أوروبا وفي العالم العربي، و"جيل البيت" في أميركا.
السلالة الأخرى وربما الأخطر هي التي خرجت من التجربة المالارمويّة، في علاقاتها باللغة، وبفراغ الصفحة وبالرمزيّة، وبالقطيعة مع الآخر والسهل: تبدأ بفاليري وتُكمل بأبولينير (قصائده البصريّة) وتزارا ومارينيتي، وبأتباع القصيدة الصوتيّة، والضوضائيّة، والبصريّة، وصولا إلى فرنسيس بونج و"انحيازه إلى الأشياء"، ودوبوشيه ودنيس روش، وميشال دوغي، وحتى فيليب سولرز وإيف بونغو ودوبزنسكي ومونييه وجاك روبو.