أي أن ثمة زوزو، الفتاة الضاحكة المستبشرة، التي يعبِّر الفيلم عن تفوقها الدراسي والرياضي وأنوثتها الطاغية، والتفصيلة الأخيرة ترتبط بلا شك بتجسيد سعاد حسني تحديدا لزوزو. والثانية هي زينب، الفتاة التي قد تنسى وضعها الاجتماعي بسبب الإغراق في أحلام اليقظة، وقد تتصرّف وكأنه لم يكن، حين تحصل مثلا على تاج الطالبة المثالية في الجامعة، وترحّب باقتراح زملائها بأن يخصصوا لها أمسية على سبيل الاحتفاء، لكنها تفاجأ في الليل بأن عليها أن ترقص في زفاف شعبي، اتفقت عليه الأم، وإن أعلنت تمردها، استنادا الى التاج الورقي، هددتها الأم بأن يخسروا جميعا مصدر رزقهم.
من المدهش أن قصة كهذه، أعدّها للسينما محمد عثمان، وكتب لها السيناريو والحوار وكلمات الأغاني والاستعراض صلاح جاهين، تترجم سينمائيا بكل هذه البهجة، التي تابعناها في النهاية على الشاشة، وهي التي كانت مرشحة بقوة لأن تصير فيلما ميلودراميا، إن لم يكن تراجيديا حزينا. من جانب، ارتبطت شهرة حسن الإمام بتخصصه في إخراج نوع الميلودراما القائم على التضخيم والمبالغة واستدرار العواطف، وهو نوع يجذب قطاعات ضخمة من الجماهير، لأنه لا يتطلب مستوى ثقافيا معينا، بل يعمل على تغذية الأفكار السائدة. ومن جانب ثان، فإن الواقع في حكاية مثل هذه، يُرجِح ألا تنجح مساعي البطلة، وألا يغفر المجتمع لها هذا العمل، لأنه يرتبط طبعا بالجسد الأنثوي، الذي يُرى غالب الوقت، عبر ثنائية المقدس والمدنس، ولنا في أدب نجيب محفوظ وسينماه خير دليل. في هذه النقطة الأخيرة، يصعب أن نتخيَّل ممثلة أخرى تؤدي دور "زوزو" غير سعاد حسني، التي لا تخجل من أنوثتها، ولا يترك حسن الإمام لحظة لا يستعرض فيها هذه الأنوثة. إنه يتفنن في اختيار زوايا التصوير الكاشفة، وتحريك سعاد بطريقة تمكننا دائما من التلصص على مفاتنها.
انحياز إلى الجمال
علاوة على الانحياز إلى الجمال، من اختيار سعاد حسني إلى اختيار الألوان التي تزهر دائما على الشاشة، في ثياب زوزو ومن حولها، وكل ما يخص تكوين الكادر، سواء في بيت نعيمة ألمظية، أو في الجامعة، أو في حي زوزو. وقد يكون أكثر الفضاءات قتامة في الفيلم، هو قصر والد المخرج الثري سعيد كامل (حسين فهمي). اختار حسن الإمام ومعه صلاح جاهين لحظة اجتماعية بعينها، هي أفول زمن شارع محمد علي، الذي عُرِف بارتباطه بالراقصات (العوالم) والآلاتية (الموسيقيون المستقلون)، وبداية عهد شارع الهرم، وقد صار اليوم بدوره من الماضي، بعد استثمار الراقصات الأجنبيات لوسائل التواصل الاجتماعي، في خلق صورة ذهنية مختلفة للرقص عن الماضي. إنه امتحان مزدوج لزوزو، فهي تتخلى عن مهنة، أو لنقل بتعبير الزمن نفسه "كار"، تخلى عنه الزمن، وبهذا ربما يخفف الإمام أيضا الحكم الأخلاقي السلبي الذي يرتبط بمهن "الجسد"، إن جاز هذا التعبير، وهو يعلم مجددا أن رؤيته المنفتحة، قد لا تتطابق مع الرؤية الضيقة للجموع، التي يمثلها الشاب الجامعي المتزمت عمران عمارة (محيي إسماعيل).
تقرر باتعة، إحدى الراقصات في بيت ألمظية، العمل في كازينوهات شارع الهرم، بعد أن يهجرها حبيبها لخجله منها، فتبيع بذلك أي غفران اجتماعي ممكن، وتحصل كمقابل على المال الوفير، الذي لم يعد شارع محمد علي قادرا على توفيره لها. به ستشتري شقة في "مدينة المهندسين"، أو حيّ المهندسين، ويوازي بلغة اليوم، أي مجمّع سكني معزول للأثرياء، من تلك التي تعرض إعلاناتها بكثافة على شاشات دراما شهر رمضان الكريم. هكذا يمكن النظر إلى كلمة "مدينة"، في حلم باتعة، باعتباره الابتعاد المتعالي على أحكام المجتمع، وهي تعرف أنها لن تتوقف.
الأمير السعيد
ما يقلب المعادلة ويحرك الأحداث في "خلي بالك من زوزو"، هو ظهور الأمير السعيد في حياة زوزو، ذات يوم من طريق المصادفة، واسمه في المناسبة سعيد كامل، مخرج مسرحي متحمس، وكلمة الحماسة عند سعيد كامل توازي في لغتنا اليوم كلمة "الشغف". فهو شغوف بالفن، وبالحرية، مثل زوزو، ولا يريد أن يبيع نفسه إلى زوجة أبيه، فيتزوج ابنتها ليحصل في المقابل على أموال أبيه الطائلة. وهكذا فإن قصة الحب التي يعطيها صلاح جاهين بعدا صوفيا، لأن زوزو ترى سعيد في المنام قبل أن تلتقيه حقيقة، ويحدث لسعيد الأمر نفسه، في لفتة رومنسية سينمائية سابقة للعصر. تصير قصة الحب هذه محفزة لتحرير البطلين، وتمكينهما معا اجتماعيا.
إنه حلم بلا شك. أن يتحرر الحبيبان من أحكام المجتمع وقيوده، ويتزوجا في سلام. حلم صدَّقه حسن الإمام بما يكفي ليدفع مشاهديه الى تصديقه كل تلك السنوات، ولو في زمن الفرجة فقط على الفيلم. ويرى إبراهيم العريس، في قاموسه، أن هذا الحلم ليس سوى وهم، ويفسره سياسيا قائلا: "إن الفيلم أتى في بدايات زمن أنور السادات، وكأنه يرسم بقوة وإقناع سياسة هذا الرئيس الانفتاحية التي تقوم على التلاقي بين الطبقات والحلول العجائبية (من فوق) لأزمة الفقر المستشرية في مصر. غير أن الذين حققوا لهذا الفيلم نجاحه – ملايين المتفرجين المصريين والعرب ما كان يبدو عليهم أنهم يبالون بتلك المغالطة الفكرية والتاريخية".