ماذا تبقى من "خلي بالك من زوزو" الفيلم العربي الأكثر شعبية؟

"مخرج الروائع" حسن الإمام روى من خلاله شغفه بالحياة والفن

ماذا تبقى من "خلي بالك من زوزو" الفيلم العربي الأكثر شعبية؟

تولد بعض الأفلام، جالبة معها الحظ السعيد، لأصحابها، وربما حتى لمُشاهديها. "خلي بالك من زوزو" هو أحد هذه الأفلام، بلا شك. الفيلم الذي صُوَِرت مشاهده بين بيروت والقاهرة، قد يكون "الفيلم الأكثر شعبية في تاريخ السينما المصرية. والفيلم الذي وضع مخرجه حسن الإمام في مكانة يستحقها، عنوانها: "المخرج الأكثر نجاحا في تاريخ السينما العربية"، بحسب الناقد إبراهيم العريس في قاموسه النقدي للأفلام "السينما والمجتمع في الوطن العربي"، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، عام 2015.

مع ذلك، فإن مسألة الفيلم الشهير لا تتعلق فقط بتاريخ السينما أو بتاريخ المجتمعات، ولا تخصّ الماضي فحسب. نستطيع أن نقول ذلك اليوم، بفضل العروض التي دشنتها سينما "زاوية" في القاهرة للفيلم في نسخته المرمّمة، هذا الشهر والشهر الماضي، احتفالا بمرور عشرة أعوام على إنشاء "سينما زاوية". وكذلك بالفضل الأكيد لاكتظاظ صالة العرض بالمشاهدين، وتفاعلهم الحي مع أغنيات الفيلم، ونكاته، ورقصاته، بالتصفيق وبالضحكات الطازجة. هم الذين شاهدوه غالب الظن من قبل، مرات عدة على التلفزيون، ولم يمنعهم ذلك من إظهار دهشة طازجة، وسرقة لحظات من الشاشة الكبيرة، عبر كاميرات الموبايل، في ما يمكن أن يُنظر إليه، كإثبات لحضور الفيلم، كتثبيت للزمن، أو حتى استعادته. كأنما نحضر "خلي بالك من زوزو" عام 1972، حين عُرِض للمرة الأولى، وظل من بعدها يُعرض لعامين متتالين بسبب نجاح مفرط، وهو حدث نادر بالطبع في تاريخ العروض التجارية.

لكن كيف شاهد جمهور اليوم، الفيلم القديم؟ وهل يمكن أن نسمي "خلي بالك من زوزو" أصلا فيلما قديما؟

هذا الفيلم الموسيقي الغنائي، ليس له أقران عدة أو شهيرة مثله، في السينما المصرية. إنه تحفة حسن الإمام الأنجح

في الواقع، لا يمكن مشاهدة "خلي بالك من زوزو" باعتباره فيلما قديما. منذ التيتر، الذي يبدو فيديو كليب مصمما خصيصا للفيلم، نشعر أن ثمة شيئا طليعيا هنا، شيئا يتفوق على زمنه، وربما حتى زمننا اليوم. الحيوية التي تمتاز بها حركة الكاميرا والمونتاج، في حدس سابق للأوان لإيقاعنا حين نشاهد الفيلم في "عصر السرعة" فلا يصيبنا ملل. حتى موسيقى فؤاد الظاهري، التي نكاد نحفظها من تكرار ثيماتها، في أفلام أخرى، تبدو هنا جديدة ومتنوعة، تضفي بعدا من اللازمن والأسطورة والحلم، على فيلم موضوعه متجدد وأسئلته لا إجابات أخيرة عنها. هذا الفيلم الموسيقي الغنائي، ليس له أقران عدة أو شهيرة مثله، في السينما المصرية. إنه تحفة حسن الإمام الأنجح بلا شك.

على طريقة حسن الإمام

لم يكن "خلي بالك من زوزو" استثناء في مسيرة المخرج الكبير حسن الإمام، المعروف شعبيا بـ"مخرج الروائع". على مستوى النجاح التجاري، بدأ الإمام مسيرته السينمائية بسلسلة من الأفلام الناجحة، جعلته يلمس ما تتفاعل معه قطاعات عريضة من الجمهور، وهي القصص الميلودرامية. قدم مثلا "اليتيمتين"، و" لن أبكي أبدا" لفاتن حمامة، وكان بهما يؤسس لنجاح النجمة الكبيرة. كذلك أخرج "الخرساء" لسميرة أحمد، مراهنا على النساء كبطلات، "وبمبة كشر" لنادية الجندي. ونادته أكثر فأكثر نداهة السينما، فانخرط في كتابة سيناريو "البوسطجي" المقتبس من رواية يحيى حقي، ومن إخراج كامل التلمساني، الذي بدوره حقق نجاحا نقديا وجماهيريا. ومن بين أعماله الجذابة للجمهور، يأتي طبعا "الخطايا"، أحد أنجح أفلام المطرب عبد الحليم حافظ.

المخرج حسن الإمام

لكن "زوزو" لم يكن استثناء في حياة الإمام على مستويات أخرى غير الإيرادات، منها محبته لعوالم الراقصات، أو "العوالم" باللهجة الشعبية التي تعبّر عنها أفلام آنذاك. المحبة المقصودة هنا ترتبط بتجسيده هذه العوالم في أفلامه، لا سيما في تحقيقه ثلاثية نجيب محفوظ، "بين القصرين"، و"قصر الشوق"، و"السكرية"، وإن لم يكن حرا تماما معها، مقارنة بأعماله الأخرى. ولرغبته في عدم إطلاق أحكام سلبية على تلك العوالم، وإن كان يدرك أنها حاضرة داخل المجتمع نفسه، وهو ما يعبّر عنه بقوة وأكثر من أي فيلم آخر له، "خلي بالك من زوزو".

السندريلا

إن قصة الفيلم، وهي من تأليف الإمام نفسه، تجد جذورها في أسطورة سندريلا الشهيرة.  زوزو، أو زينب عبد الكريم، تعيش حياتين، هي في إحداهما فتاة جامعية لها شعبية كبيرة، ومستقبل واعد، وحياة ثانية لا يعرف زملاؤها عنها الشيء الكثير، وفيها تكون عالِمة من عوالم شارع محمد علي، تكمِّل مسيرة والدتها الراقصة المعتزلة نعيمة ألمظية (تحية كاريوكا) لتقدمها في السن، فتحيي حفلات الزفاف والطهور وخلافه، من أجل وجبة عشاء، وأجرة لها وللفرقة الفنية المصاحبة. من هذه الأجرة، تنفق زوزو على تعليمها الجامعي، وعلى أسرتها المكوَّنة من أمها وزوج أمها شلبي (شفيق جلال)، وتمني نفسها بأن تتحرّر ذات يوم من أسر هذه الحياة، غير المقبولة اجتماعيا (بما أنها تخفيها عن زملائها)، بأن تتخرج وتعمل موظفة، وكذا تبدأ حياة جديدة، وتتزوج بلا ريب من شاب لا يهجرها ويخجل منها، كما فعل والدها مع والدتها، وزينب بعدُ رضيعة.

يصعب أن نتخيَّل ممثلة أخرى تؤدي دور "زوزو" غير سعاد حسني، التي لا تخجل من أنوثتها، ولا يترك الإمام لحظة لا يستعرض فيها هذه الأنوثة

أي أن ثمة زوزو، الفتاة الضاحكة المستبشرة، التي يعبِّر الفيلم عن تفوقها الدراسي والرياضي وأنوثتها الطاغية، والتفصيلة الأخيرة ترتبط بلا شك بتجسيد سعاد حسني تحديدا لزوزو. والثانية هي زينب، الفتاة التي قد تنسى وضعها الاجتماعي بسبب الإغراق في أحلام اليقظة، وقد تتصرّف وكأنه لم يكن، حين تحصل مثلا على تاج الطالبة المثالية في الجامعة، وترحّب باقتراح زملائها بأن يخصصوا لها أمسية على سبيل الاحتفاء، لكنها تفاجأ في الليل بأن عليها أن ترقص في زفاف شعبي، اتفقت عليه الأم، وإن أعلنت تمردها، استنادا الى التاج الورقي، هددتها الأم بأن يخسروا جميعا مصدر رزقهم.

من المدهش أن قصة كهذه، أعدّها للسينما محمد عثمان، وكتب لها السيناريو والحوار وكلمات الأغاني والاستعراض صلاح جاهين، تترجم سينمائيا بكل هذه البهجة، التي تابعناها في النهاية على الشاشة، وهي التي كانت مرشحة بقوة لأن تصير فيلما ميلودراميا، إن لم يكن تراجيديا حزينا. من جانب، ارتبطت شهرة حسن الإمام بتخصصه في إخراج نوع الميلودراما القائم على التضخيم والمبالغة واستدرار العواطف، وهو نوع يجذب قطاعات ضخمة من الجماهير، لأنه لا يتطلب مستوى ثقافيا معينا، بل يعمل على تغذية الأفكار السائدة. ومن جانب ثان، فإن الواقع في حكاية مثل هذه، يُرجِح ألا تنجح مساعي البطلة، وألا يغفر المجتمع لها هذا العمل، لأنه يرتبط طبعا بالجسد الأنثوي، الذي يُرى غالب الوقت، عبر ثنائية المقدس والمدنس، ولنا في أدب نجيب محفوظ وسينماه خير دليل. في هذه النقطة الأخيرة، يصعب أن نتخيَّل ممثلة أخرى تؤدي دور "زوزو" غير سعاد حسني، التي لا تخجل من أنوثتها، ولا يترك حسن الإمام لحظة لا يستعرض فيها هذه الأنوثة. إنه يتفنن في اختيار زوايا التصوير الكاشفة، وتحريك سعاد بطريقة تمكننا دائما من التلصص على مفاتنها.

انحياز إلى الجمال

علاوة على الانحياز إلى الجمال، من اختيار سعاد حسني إلى اختيار الألوان التي تزهر دائما على الشاشة، في ثياب زوزو ومن حولها، وكل ما يخص تكوين الكادر، سواء في بيت نعيمة ألمظية، أو في الجامعة، أو في حي زوزو. وقد يكون أكثر الفضاءات قتامة في الفيلم، هو قصر والد المخرج الثري سعيد كامل (حسين فهمي). اختار حسن الإمام ومعه صلاح جاهين لحظة اجتماعية بعينها، هي أفول زمن شارع محمد علي، الذي عُرِف بارتباطه بالراقصات (العوالم) والآلاتية (الموسيقيون المستقلون)، وبداية عهد شارع الهرم، وقد صار اليوم بدوره من الماضي، بعد استثمار الراقصات الأجنبيات لوسائل التواصل الاجتماعي، في خلق صورة ذهنية مختلفة للرقص عن الماضي. إنه امتحان مزدوج لزوزو، فهي تتخلى عن مهنة، أو لنقل بتعبير الزمن نفسه "كار"، تخلى عنه الزمن، وبهذا ربما يخفف الإمام أيضا الحكم الأخلاقي السلبي الذي يرتبط بمهن "الجسد"، إن جاز هذا التعبير، وهو يعلم مجددا أن رؤيته المنفتحة، قد لا تتطابق مع الرؤية الضيقة للجموع، التي يمثلها الشاب الجامعي المتزمت عمران عمارة (محيي إسماعيل).

تقرر باتعة، إحدى الراقصات في بيت ألمظية، العمل في كازينوهات شارع الهرم، بعد أن يهجرها حبيبها لخجله منها، فتبيع بذلك أي غفران اجتماعي ممكن، وتحصل كمقابل على المال الوفير، الذي لم يعد شارع محمد علي قادرا على توفيره لها. به ستشتري شقة في "مدينة المهندسين"، أو حيّ المهندسين، ويوازي بلغة اليوم، أي مجمّع سكني معزول للأثرياء، من تلك التي تعرض إعلاناتها بكثافة على شاشات دراما شهر رمضان الكريم. هكذا يمكن النظر إلى كلمة "مدينة"، في حلم باتعة، باعتباره الابتعاد المتعالي على أحكام المجتمع، وهي تعرف أنها لن تتوقف. 

الأمير السعيد

ما يقلب المعادلة ويحرك الأحداث في "خلي بالك من زوزو"، هو ظهور الأمير السعيد في حياة زوزو، ذات يوم من طريق المصادفة، واسمه في المناسبة سعيد كامل، مخرج مسرحي متحمس، وكلمة الحماسة عند سعيد كامل توازي في لغتنا اليوم كلمة "الشغف". فهو شغوف بالفن، وبالحرية، مثل زوزو، ولا يريد أن يبيع نفسه إلى زوجة أبيه، فيتزوج ابنتها ليحصل في المقابل على أموال أبيه الطائلة. وهكذا فإن قصة الحب التي يعطيها صلاح جاهين بعدا صوفيا، لأن زوزو ترى سعيد في المنام قبل أن تلتقيه حقيقة، ويحدث لسعيد الأمر نفسه، في لفتة رومنسية سينمائية سابقة للعصر. تصير قصة الحب هذه محفزة لتحرير البطلين، وتمكينهما معا اجتماعيا.

إنه حلم بلا شك. أن يتحرر الحبيبان من أحكام المجتمع وقيوده، ويتزوجا في سلام. حلم صدَّقه حسن الإمام بما يكفي ليدفع مشاهديه الى تصديقه كل تلك السنوات، ولو في زمن الفرجة فقط على الفيلم. ويرى إبراهيم العريس، في قاموسه، أن هذا الحلم ليس سوى وهم، ويفسره سياسيا قائلا: "إن الفيلم أتى في بدايات زمن أنور السادات، وكأنه يرسم بقوة وإقناع سياسة هذا الرئيس الانفتاحية التي تقوم على التلاقي بين الطبقات والحلول العجائبية (من فوق) لأزمة الفقر المستشرية في مصر. غير أن الذين حققوا لهذا الفيلم نجاحه – ملايين المتفرجين المصريين والعرب ما كان يبدو عليهم أنهم يبالون بتلك المغالطة الفكرية والتاريخية".

يصعب القول إن الإمام باعنا في "زوزو" وهما أو حلما لم يصدقه والدليل تفاعل المشاهدين المذهل معه

مع ذلك، فإن سعيد كامل، يمكن رؤيته كرديف لحسن الإمام نفسه، فهو الذي آمن بزوزو، أو بسعاد حسني، وهو الذي كان يحتاج إليها بشدّة كي يتحقق بعيدا من سلطة الأب وجموده. سعيد مخرج مسرحي، والمسرح هو العالم الذي اجتذب أولا إليه حسن الإمام حين تفتح على الفن. ويروي د. وليد سيف في كتابه عن حسن الإمام الصادر ضمن سلسلة "الخالدون"، عام 2021، عن تكوين حسن الإمام فيقول: "حظي الإمام بطفولة انفرادية مع أب متسلط وطاغ وربما سي السيد نفسه، فترك نفسه ينغمس في حضور عروض الفرق المسرحية في المنصورة كفرق فاطمة رشدي وعزيز عيد ويوسف وهبي".

سيرة موازية

لم تحب أسرة حسن الإمام الفن، ولم تشجعه في هذا الطريق، كما لم تحب أسرة سعيد كامل زوزو، ولم تشجعه على الزواج منها. لكن الموقف الأسري، لم يوقف الإمام طبعا، ويواصل وليد سيف: "عاشر حسن الإمام في شبابه الأول أهل شارع محمد علي، وبالتزامن التحق باستديو مصر وعمل مساعدا لنيازي مصطفى كما ترجم وعرّب من الكوميدي فرانسيز فقرات للفرق المسرحية الفرنسية، إلى أن سنحت له الفرصة لأول مرة عام 1946 لإخراج فيلمه الأول ملائكة في جهنم".

علاوة على ذلك، درس الإمام السينما بالمراسلة مع أحد المعاهد الفرنسية المتخصصة. ونستنبط من ذلك كم أنارت الثقافة الفرنسية درب الشاب الطموح، وقد تكون علَّمته ألا يتخذ لا من الفن ولا من النساء ذلك الموقف الأخلاقي العنيف الذي يتبناه المجتمع تقليديا. وتوازي هذه العلاقة بالثقافة الأوروبية عند الإمام، تاريخ شخصية سعيد كامل، الذي درس الفنون في فيينا، وعاد من بعد إلى القاهرة يحمل رؤية طليعية للمسرح المصري الذي يعترف الإمام بمعاناته بسبب التكلس الفكري، على لسان سعيد في جملة حوارية.

في مشهد من الفيلم، يقول سعيد كامل لزوزو، وهو يخطط لمشروعهما الفني والزوجي: "آه يا زوزو لو الناس تعرف أن الفن المتسد هو الحب". وكأن حسن الإمام نفسه، يلخص في هذا الكلمة رؤيته للفن، وشعاره كما عبَّر عنهما "خلي بالك من زوزو". هذا الحب يتخذ عند حسن الإمام شكل البهجة، والرقص، والحفاوة بجسد الأنثى، والضحك بما في الحوار وأداء الأبطال من خفة ظل لا تزال إلى اليوم قادرة على التأثير إيجابيا على الجمهور، لا سيما في أداءات نبيلة السيد وشفيق جلال ووحيد سيف وسمير غانم وغيرهم بالطبع.

مشهد من فيلم "خلي بالك من زوز"

كل تلك الأسباب تجعل من الصعب القول إن حسن الإمام باعنا في "خلي بالك من زوزو" وهما أو حلما لم يصدقه. والدليل تفاعل المشاهدين المذهل معه، اليوم في العام 2024 وقد رحل حسن الإمام، ورحلت سندريلاته الجميلة سعاد حسني، منذ سنوات عديدة. نعم، لم يُبدِ المجتمع تسامحا أكبر مع الزمن، وقد لا يكون صدَّق حلم الإمام كما صدَّقه هو نفسه. فقبل فترة قصيرة، نجح جماهيريا فيلم "الرحلة 404"، من إخراج هاني خليفة وبطولة منى زكي، الذي يعبِّر بالضبط عن نقيض حلم الإمام. ليس ثمة حب ممكن ولا غفران، بل ثمة عقاب مزمن وجماعي والأنثى كبش فداء. ولعلّ هذا تحديدا، أهم عامل في خلود "خلي بالك من زوزو" ودوام بهجته، إنه يجعلنا نصدَّق كل مرة، أن السعادة ممكنة.    

font change

مقالات ذات صلة