من الباحثين من يُجهد نفسه لتحديد "أصل" الكوفية، قطعة الثوب البيضاء المطرّزة بالأسود التي ترمز إلى نضال الشعب الفلسطيني، فيتساءل عمّا إذا كانت تحمل اسم المكان الذي صدرت عنه، أو ما إذا كانت "ذات أصل فلسطيني قحّ"؟ وهنا يذكّرنا البعض بأنّ تاريخ ميلاد هذه الأيقونة يعود إلى ثلاثينات القرن الماضي حيث كانت مجموعات من الثوار الفلسطينيين تقوم بإخفاء ملامح الوجه بارتداء "الحطة"، وعندما شرعت سلطات الانتداب في اعتقال كل من يتوشّح بها، أمر الثوار الجميعَ بارتدائها.
غير خافٍ أنّ مثل هذا الإرجاع والاختزال وحصر المعاني والوظائف في بُعد بعينه، من شأنه أن يُفقر الشعار، ويقلّص كثافته السيميولوجية، ويقضي على بعده الرمزي. ذلك أن الشعار ليس انعكاسا لواقع فعلي ولا اسما بديلا منه. فهو، مبدئيا، لا يطابق واقعا وإنما يسمو بـ"الواقع" ويعلو عليه. قيمته في رمزيته، والرمز لا يُفسَّر بإرجاعه إلى واقع، بل إنه هو الذي قد يفسِّر كثيرا من الوقائع ويفعل فيها.
صحيح أن الرمز قد يفقد رمزيته. هذا بالضبط ما جرى لكثير من الصور الرمزية التي قد تستحوذ عليها آليات المجتمع الاستهلاكي فتحوّلها إلى "لوغو". علما أن ما يميز الشعارـ الأيقونة عن الشعار-اللوغو هو ما يميّز الانفتاح عن الانغلاق، والهوية عن التطابق: الأيقونة تَفتَحُ على خارج، وتنظر إلى أفق، وتحيل إلى نموذج، وتنشد مثلا أعلى، أما اللوغو فهو ينغلق على ذاته، ويكتفي بأن يتوحّد مع ما يحيل إليه و"يتطابق" معه. فإذا كانت الأيقونة تتميّز بتعدّد إحالاتها وغنى دلالاتها connotations، فإنّ اللوغو يكتفي بأن يرتبط بمدلول بعينه ليظلّ أحادي البُعد وحيد الدلالة dénotation
ما يميز الشعارـ الأيقونة عن الشعار-اللوغو هو ما يميّز الانفتاح عن الانغلاق، والهوية عن التطابق
بيّن غي دوبور سعي "مجتمع الفرجة" الدائب إلى إفقار دلالات الأيقونة لاختزالها وجعلها أحادية البعد. كما أوضحت حنّه آرندت أن إنسان عصر الصورة، "الذي يقدّس الشفافية، سرعان ما يتخلّى عن كل مثل أعلى [...] كي ينطوي على نفسه بعيدا عن أيّ انفتاح على الخارج، ويصبح مكتفيا بعالمه الضيّق، ملتصقا بالمألوف الذي يعجّ بتمثلات تلتصق أشدّ الالتصاق بالواقع المباشر".
ولعلّ المثال الذي يخطر ببالنا في هذا السياق، ما تعرضت له صورة تشي غيفارا من تحوّل سواء في دلالاتها أو في وظيفتها. وبالفعل، يمكن اعتبار هذه الصورة مثالا بارزا على ما يُحدثه مجتمع الفرجة من تأثير على الأيقونة. فبما هو يخضع لهيمنة الصورة والإعلام، فإنه يختزل أبعادها ويجعل منها مجرد "لوغو". ذلك أن صورة "تشي"، التي ظلّت لمدة غير يسيرة تعتبر في أنحاء مختلفة من العالم شعار اليسارية و"صورة البطل الثوري" بلا منازع، سرعان ما "سرقها" الإعلام من السياسة ليحوّلها إلى صورة إشهارية إعلامية تزيّن الملابس وغلف الألبومات الموسيقية، إلى حدّ أنّ حاملها لم يعد يعبأ بما تدلّ عليه، ولا بما كانت تعنيه، ولا بأيّ قيم، اللهمّ إلا قيم الاستهلاك التي تفرضها موضات اللباس والأغاني.
ما الذي جرى لأيقونة الكوفية؟ إذا أردنا أن نتخلى عن السعي وراء تقصي "الأصول المؤسِّسة"، ونكتفي بمتابعة تلك التي تأسست و"تأصلت"، ينبغي أن نتابع الدلالات التي أعطيت للكوفية، والكيفية التي اكتست وفقها رمزيتها. المعروف أنه ابتداء من ستينات القرن الماضي استطاع المرحوم ياسر عرفات، الذي كان يحرص أشدّ الحرص ألاّ يظهر إلاّ والكوفية على رأسه، استطاع أن يكرّسها شعارا للنضال الفلسطيني، فغدا ارتداؤها انخراطا في ذلك النضال، ومؤازرة للثورة الفلسطينية وأبطالها. وهكذا صارت الكوفية "أيقونة" ثورة بعينها.
ما خلفته حرب العدوان على غزة، أعاد إلى الكوفية اسمها، وأرجع إليها رمزيتها الفعلية
ها هنا أيضا سيحاول الإعلام أن يختطف هذا الشعار، ولكن، لا لينتزعه، هذه المرة، من السياسة، وإنما ليوسّع انتشاره، وينزعه من سياقه، ويحمّله دلالات مجردة لا تردّ إلى وضعية بعينها: ليجعله ثورة من غير ثوار بعينهم. وهكذا أخذنا نلحظ، في منابر وسياقات متباينة، انتشارا غير معهود لهذه الأيقونة، أصبحنا نراها حتى في شوارع العواصم الغربية، بل أخذنا نلاحظها في التجمعات الحزبية في كثير من البلدان العربية، حتى إن كان موضوع التجمّع بعيدا عن القضية الفلسطينية، بل إننا صرنا نراها حتى داخل قبة البرلمانات، وفي رحاب الجامعات وعلى كل الرؤوس، بما فيها رؤوس نجوم السينما، وأبطال الرياضة، ومغنّي الراپ على الخصوص. وهكذا لم يعد شعار الكوفية مقتصرا على دلالاته، ولا مرتبطا لا بتاريخ ولا برموز وقضية بعينها. لقد أصبح عائم الرمزية، أصبح مجهول الأصل والاسم، وانتصر فيه الآني على التاريخي، والعولمي على الخصوصي، والسياسوي على السياسي.
غير أنّ ما خلفته حرب العدوان على غزة، أعاد إلى الكوفية اسمها، وأرجع إليها رمزيتها الفعلية. وهكذا أصبحنا نرى أنّ من يحملها اليوم من الأوروبيين والأميركيين، لا يتوخى منها تعبيرا عن موقف يساري عائم، ولا عن ثورة بلا ثوار، ثورة مجردة، وإنما هو يحملها مساندة لضحايا العدوان الإسرائيلي، كشعار يحمل تاريخا، وكرمز لنضال شعب له اسم بعينه هو الشعب الفلسطيني.