- شخصياتك الكثيرة فيها شيء منك، هل ما زلت تتواصلين مع هذه الشخصيات؟
عندما أنظر إلى المرآة وأقول لها من أنت؟ تجيبني: أنا التي دفنتني في الكتاب. أشعر أنها هنا وأنها لا زتزال موجودة، لكنني أصبحت مختلفة، وهي كذلك، أنا التي كنتها قبل هي بداخلي وليست أنا، تصر وتحاورني من دون أن تحاسبني، والتي كتبتها لم تتصنم بل هي تكبر أيضا وتنضج فيها أفكارها. في دواخلنا حوارات لا نعيها دائما إلا إذا فكرنا فيها وأنصتنا اليها وتوقفنا عند ما تقول.
الحرب الأهلية
- في روايتك "زمن المتاهة"، سيرة روائية للحرب الأهلية، ونرى حياتك الشخصية أيضا، وتفاصيل حياة البلد بناسه ومقاهيه وحروبه، هل أردت ان يكون نصك شاهدا وذاكرة؟
كتاب "زمن المتاهة" هو إحساس تام بالمأساة الوطنية، هو تصوير لمشاهد الحرب من عين مناضلة، عندما كان النضال على مستوى الكتابة والأغاني والشعر والحب والانفتاح على الآخر المختلف. الرواية شاهد على الحرب الأهلية وما أفرزته، وتأريخ لذاك الزمن. أروي سيرتي كتلميذة وأستاذة ومديرة ودكتورة انتمت إلى جيل لا خيارات له في بلاد لا تحدث فيها إلا الحروب التي تجسّدت بشتى الأشكال، يروي الكتاب مرحلة صعبة وقاسية في حياة المثقف الثوري الذي هو أنا ورفاقي، والصراع بين التحرر الوطني من العدو الإسرائيلي وبين التحرر الاجتماعي والاقتصادي والطبقي.
- ما الذي يدفعك إلى الكتابة؟
أنا امرأة أرقة، بمعنى أن ما يتحرك في داخلي له معنى الأرق، وهو أرق روحي وليس ماديا، وأرقي لا يطمئنه الكلام، لذا من يتعرف اليّ يراني صامتة، لطالما ايقنت أن الكلام دون ما نريد أن نقول، وأن فيّ تجول عوالم لا تصفها العبارة. لهذا نكتب ونحاول أن نقول كل ما لدينا، وفي كل نص ننجزه نظن أننا فرغنا من المعاني وستخفت الأصوات، ولكن عبثا نحاول. فنحن في كل مرة نمتلئ من جديد. أترك للقارئ أن يشاركني توليد المعاني وبلورتها في النص، غالبا ما تكون كامنة ولكن ليست واضحة، وتحفيز خيال القارئ هو الهدف الرئيس بالنسبة إليّ.
المدينة الأولى
- أهديت سيرتك إلى "صيدا المدينة التي رأيت فيها النور"، ما الذي يخطر في بالك عن طفولتك؟
ترعرعت في مدينة صيدا، ومن بعدها انتقلت إلى بيروت في مرحلة الجامعة والزواج، ولكني أجبرت على العودة إلى صيدا لأكون أستاذة في مدارسها، وقبلت بهذا. تلك مرحلة اتسمت بالتنوّع والتغيّر، مرحلة انتقال من التقليد إلى الحداثة. ففي طفولتي كنت أنظر إلى المدينة الساحلية الصغيرة صيدا، كفتاة تجلس في الصمت ليست مرئية و لا حضور لها، لكن ذاكرتي كانت تسجل كل تفصيل. لا أنسى صورتي مريضة بالحمى، لا أنسى موت ابن عمي وابن خالتي، فالطب في تلك المرحلة لم يكن متطورا والمرضى يموتون دون معرفة السبب. وعلى الرغم من ذلك، كان الناس سعداء راضين بواقعهم وممتنين. كان هناك تجاور بين الناس، وكان المسيحي يجاور المسلم، لم يكن هناك كراهية، لم يكن هناك تعصب أو حقد، كأن نوعا من المصالحة الفطرية والمحبة الخالصة كانت تفرض سلطتها.
- ذكرت أنك عشت طفولة مكبلة تحت سقف التربية التقليدية، وعلاقتك بأهلك وخاصة بأبيك كانت معقدة وذلك واضح من خلال نص رثيت به والدك، هل هذا الواقع حملك على الكتابة؟
نعم، كانت طفولة محرومة، كنت ممنوعة من أشياء أحبها، من ممارسة حريتي بشتى الأمور، من أن أكون منطلقة من دون روادع. تربية تقليدية رسخت بي، متوارثة من منطلق نيات حسنة، لكني كنت أشعر بضيق وبحرمان وبأفق مغلق أمامي وبحواجز تمنعني من الانطلاق. أنا لا أتهم أو أحاسب أو أدين أهلي لأنها تربية فئة اجتماعية سائدة.
بداية، لم تتح لي فرصة التعبير، لم يكن أحد في المنزل يحاورني، لم يقل لي أحد إنني أنثى ولم يسألني أحد عن مشاعري، فالجميع مشغول بقضايا المنزل. حتى في الثانوية لم تكن ثمة صفوف للبنات في صيدا. البنت تختم القرآن وتلزم البيت أو تتزوج. بعض البنات كنّ يدرسن سنوات عدة في مدرسة "المقاصد" الإسلامية والخيار الآخر كان متوافرا في "المدرسة الإنجيلية"، لكن كان من المستحيل أن أنتسب إلى مدرسة الكفار بحسب تعبير أهلي.
اكتشفت نفسي وحدي وكبرت في الصمت. ورثت عن أمي إرث الأخلاق والمشاعر، لم أشعر بالرجل الأب، تعرفت إلى الرجل بالزواج، وهذا ما ولد لديَّ عدم ثقة بالآخرين. لطالما عشت تغيرات داخلية، الأشياء العميقة كنت أبقيها غارقة في عمقها وربما تعتقت و خرجت الكتابات، لغتي قابلة للتأويل كدواخلي.
قتلة ومتعصبون
- انتسبت إلى الحزب الشيوعي وربطتك صداقة بمهدي عامل وحسين مروة وغيرهما من المفكرين اللبنانيين والعرب، من تتهمين بمقتلهما وكيف وجدت أداء الحزب الشيوعي خلال الحرب؟
هناك تقديرات وتوقعات تبقى تهما ولم تثبت بقرائن، ولكن المؤكد أن المتعصبين دينيا آنذاك والذين لا يريديون للفكر الحر أن يحكم هم السبب بملاحقة وتهميش وقتل المثقفين الأحرار. حسين مروة، كان يزورنا دائما في بيتنا، مرة شهد بي شهادة جميلة "يمنى العيد تُغني الماركسية بالبنيوية". كانت العلاقات الثقافية جميلة وحميمية وتحمل قضايا الحق والعدل والحرية. حزنت كثيرا عندما قتل، أما مهدي عامل (حسن حمدان) فقد دفع حياته ثمنا لآرائه وهو يواصل إزاحة اللثام عن جوهر الطائفية، بوصفها نزاعا سياسيا أصيلا ينتمي إلى النضال ضد الرأسمالية. كان هناك نوع من حلق الرؤوس ذات الفكر اليساري، فالمسيطر في تلك الفترة هو الذي قتلهما. انتسبت إلى الحزب الشيوعي ولكني كنت مهتمة بالأنشطة الثقافية اكثر منها بالسياسية، عارضت دخول الحزب في الحرب الأهلية.