الثقافة الشعبية الكورية متألقة في الجنوب وباهتة في الشمال

الديكتاتورية تخنق الإبداع والفرح

الثقافة الشعبية الكورية متألقة في الجنوب وباهتة في الشمال

كان لحكام كوريا الشمالية على الدوام آراء متشددة حيال الفن، بدءا من كيم إل سونغ، الديكتاتور المؤسس للنظام، الذي كان يطالب الفنانين بـ"إثارة الكراهية المشتعلة تجاه العدو من خلال أعمالهم". أما ابنه وخليفته، كيم جونج إل، فكان شديد الحماسة للسينما إلى الحد الذي دفعه لاختطاف مخرج كوري جنوبي وزوجته الممثلة السابقة وإجبارهما على صنع أفلام دعائية، بما في ذلك فيلم خيالي عن وحش على غرار فيلم "غودزيلا" (وكان جيدا على غير العادة). وجاء الحفيد كيم جونج أون، الحاكم الحالي، ليطلب "تحفا فنية تنبض بمشاعر العصور"، الأمر الذي يترجم في الواقع تمجيدا لذاته.

ربما يكون لرئيس كوريا الجنوبية آراء حول الفنون أيضا، ولكن نظرا لكونها دولة ديمقراطية، فإن الفنانين ليسوا ملزمين موافقته على آرائه والتزام توجهاته. يساعد هذا النهج في تفسير سبب انتشار الثقافة الشعبية الكورية الجنوبية بفرح وبهجة في جميع أنحاء العالم، على عكس "ثقافة الشعب" الكورية الشمالية.

رسم بياني: الإيكونوميست.

على منصة "يوتيوب"، حقق فيديو "غانغام ستايل"، وهو فيديو راب كوري جنوبي، أكثر من 5 مليار مشاهدة، وهو ما يقرب من 60 مرة أكثر من عدد مشاهدات أغنية "قبلة" الشعبية للأطفال في كوريا الشمالية. أما على موقع "آي إم دي بي" "IMDb"، وهو قاعدة بيانات الأفلام عبر الإنترنت، فإن الأفلام الكورية الجنوبية تحظى بتقييمات مئات الآلاف من المشاهدين، بينما لا تكاد تملك الأفلام الكورية الشمالية أي تقييمات تذكر. الفارق الكبير بين البلدين يمكن توضيحه فقط من خلال مقارنة بيانات خوارزمية، كما يظهر في الرسم البياني السابق.

النجاح الثقافي يترجم إلى نجاح مالي. فقد كانت نصف الألبومات العشرة الأكثر مبيعا في العالم في العام الماضي من إنتاج كوريا الجنوبية

النجاح الثقافي يترجم إلى نجاح مالي. فقد كانت نصف الألبومات العشرة الأكثر مبيعا في العالم في العام الماضي من إنتاج كوريا الجنوبية، وفقا لتقرير الاتحاد الدولي لصناعة التسجيلات الصوتية، وهو هيئة تجارية دولية. وتشير الإحصائيات إلى أن عائدات صادرات الثقافة الشعبية بلغت 13 مليار دولار في عام 2022، مقارنة بأقل من 5 مليارات دولار في عام 2013، وهو رقم يتجاوز قيمة صادرات كوريا الشمالية الرسمية لجميع السلع والخدمات المجتمعة.

رسم بياني: الإيكونوميست.

تشترك الكوريتان بتاريخ يمتد لمدة تزيد على 5000 سنة، ولم يتم فصلهما إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن هنا، يمكن أن تقدم مقارنة ثقافتهما الشعبية الحديثة نظرة مفيدة حول كيفية تأثير السياسة على الإبداع.

الفرق الأول يتمثل في درجة الحرية. في كوريا الجنوبية، حيث يتمتع الفنانون بالحرية في التعبير والانتقاد، ويمكنهم تسليط الضوء على الحقائق المزعجة والسخرية منها. يُعتبر فيلم "الطفيلي" Parasite، الذي فاز بجائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل الأوسكار عام 2020، مثلا على ذلك، حيث يقدم صورة قاتمة للفجوة الاجتماعية في كوريا الجنوبية، (بمعايير البلدان الغنية بشكل خاص لا تعتبر هذه الفجوة سيئة). بالمثل، يقدم مسلسل "لعبة الحبّار"Squid Game نظرة دموية ومبتكرة حول الموضوع نفسه، حيث يتنافس المشاركون الذين يعانون من ضائقة مالية في ألعاب خيالية للفوز بجائزة ضخمة، مع مواجهة الموت إذا فشلوا.

حرية انتقاد العدو

بالنسبة إلى الكوريين الشماليين، تتمثل الحرية في انتقاد كوريا الجنوبية فقط. وتُعبر إحدى الصحف الشمالية عن إعجابها بفيلم "الطفيلي" وتصفه بأنه "تحفة فنية" لتسليطه الضوء على مشاكل الطبقة العاملة في سيول، ولكن أي عمل فني يتعلق بكوريا الشمالية يجب أن يمجد النظام ويشوه سمعة أعدائه. هذا القيد يجعل العمل الفني مملا مما يسهل التنبؤ بأحداثه.

الفيلم الوحيد الذي أصدرته كوريا الشمالية في السنوات الخمس الماضية يحمل عنوان "يوم وليلة"، ويروي قصة مملة عن ممرضة متواضعة تفضح المعارضين للثورة. وفي حين تصوّر الأعمال السينمائية الكورية الجنوبية أبطالا معقدين يواجهون اختيارات أخلاقية صعبة، يتم تقديم الشخصيات في الأعمال السينمائية الكورية الشمالية ببساطة، حيث تكون الشخصيات إما بطولية (عمال نموذجيون) أو شريرة (خونة، جواسيس). وتُصوّر الشخصيات الأجنبية إما بوصفها شريرة (أميركيون، يابانيون) أو مخلصة بشكل غير معقول لعائلة كيم.

بالإضافة إلى ذلك، يتعين على الممثلين الذين يؤدون الأدوار في الأعمال الفنية ألا يكونوا قد أزعجوا النظام في السابق، ويُطبق هذا الشرط بطريقة رجعية، مما قد يكون محرجا للغاية. على سبيل المثل، الدور الرئيس في "سكرتير حزب تايهونج دانج"، وهو دراما تلفزيونية عن مشروع استصلاح الأراضي لزراعة البطاطا، قام بأدائه في الأصل الممثل تشوي أونج تشول، الذي خسر مكانته لأسباب غير واضحة (تقول الشائعات إنه كان مرتبطا بعم كيم جونغ أون، الذي أعدم بتهمة الخيانة في عام 2013 ومحي تقريبا من التاريخ.) وعند إعادة بث العمل أخيرا، أزيل رقميا وجه تشوي وصوته من كل مشهد واستبدلا بوجه ممثل آخر وصوته، مما يبرز حساسية السيطرة على الثقافة في كوريا الشمالية.

يتعين على الفنانين الكوريين الشماليين التظاهر بأن الأفكار الجيدة تنبع فقط من كوريا الشمالية، خاصة من عائلة كيم

يمتد التوافق الأيديولوجي إلى الموسيقى أيضا. حيث تعتبر أغاني مثل "أعطنا أوامرك أيُّها الزعيم!" نموذجا منمقا، مع فيديو لجنود يمشون بخطوات عسكرية ويقتحمون المعركة من خلال صفائح من النار. يستمتع القليل من الأجانب فقط بمثل هذه الأغاني، في حين يتظاهر العديد من الكوريين الشماليين بذلك. تتذكر تشوي إيل هوا، التي هربت من كوريا الشمالية عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، أنها قامت مع أصدقائها بـ"تحريف كلمات" الأغاني التي تتوافق عليها الدولة، مستبدلين كلمات مثل "المجد" وسلالة كيم بـ"الحب" و"الأصدقاء"، وبالتالي فإنهم يخاطرون بعقوبة مروعة من أجل بضع لحظات من الحرية الفنية.

عندما يكون التقليد تملقا وليس بتملّق

يتجلى الفارق الكبير الثاني في التأثر بالثقافة الأجنبية. يتبنى الفنانون الكوريون الجنوبيون مفهوم الاستعارة على نطاق واسع، حيث يستلهم مخرجو الأفلام مثل بارك تشان ووك وبونغ جون هو الإلهام من أفلام العصابات في هونغ كونغ، والواقعية الجديدة في تايوان، والكلاسيكيات الأميركية. كما تعيد فرقة "بلاك بينك"، أول فرقة "بوب" نسائية كورية تتصدر قائمة بيلبورد لأفضل 200 فرقة في أميركا، صياغة "الهيب هوب" و"البوب" الأميركي بأسلوب فريد. في أغنيتهم الأولى "قم بالتصفير"، يجمعون بين الإنكليزية والكورية بنمط موسيقى التراب "Trap" على إيقاع "الهاي هاتس"، ليخلقوا مزيجا متميزا. وتستحوذ شركات الموسيقى الكورية الجنوبية على 80-95٪ من إيراداتها من الإصدارات الجديدة، وفقا لسوه بو كيونغ من شركة برنستين للأبحاث، مما يدفعها للبحث المستمر عن أصوات جديدة لتسرق منها.

AFP
ينحني الناس لتكريم تمثالي زعيمي كوريا الشمالية الراحلين كيم إيل سونغ وكيم جونغ إيل على تل مانسو، كجزء من الاحتفالات بالذكرى الـ 112 لميلاد كيم إيل سونغ، المعروف باسم "يوم الشمس"، في بيونغ يانغ في 15 أبريل 2024.

على العكس من ذلك، يتعين على الفنانين الكوريين الشماليين التظاهر بأن الأفكار الجيدة تنبع فقط من كوريا الشمالية، خاصة من عائلة كيم. تتمثل أيديولوجيا الدولة الحالية في مفهوم "غوتشي" أو الاعتماد على الذات. قد يتم إرسال المواطنين إلى الغولاغ (معسكرات السخرة) لمجرد امتلاكهم أفلاما أو موسيقى أجنبية. وحذر كيم جونغ إيل من أن "موسيقى البوب المفسدة" التي ينتجها الأجانب قد تثير "فلسفة البحث عن المتعة المبتذلة وغير الصحية".

يُسمح لعدد قليل فقط من الفنانين الموثوق بهم بالوصول إلى المواد الأجنبية، وعادة ما يختارون إخفاء مصادر إلهامهم منها. بالتالي، فإن العديد من ألعاب الهواتف المحمولة الكورية الشمالية هي نسخ غير معترف بها من عناوين غربية مثل لعبة "الطيور الغاضبة" Angry Birds و"بيجيولد" Bejeweled، التي لا تتوفر على الإنترنت المحاصرة في كوريا الشمالية. أشهر لعبة أصلية، هي سباق بيونغ يانغ، وهي لعبة محاكاة بسيطة لقيادة المركبات. ويكمن جوهرها الرئيس في التمثيل الواقعي، حيث تظهر الشوارع فارغة تماما مثل الشوارع في العاصمة، حيث لا يمتلك سوى الأثرياء سيارات.

الفارق الثالث هو الرأسمالية. تُنتج الثقافة الشعبية في كوريا الجنوبية مجموعةٌ متنوعة من الشركات الخاصة. تتميز هذه الشركات بسجل فضائحها المعروف وسيطرتها الدقيقة على حياة النجوم، إلا أنها تدرك دائما أن المعجبين لديهم خيارات أخرى.

تدرك هذه الشركات أن عدد سكان بلادها لا يتجاوز 52 مليون نسمة، لذا سعت لإرضاء الجمهور العالمي، تماما كما سعت الشركات الصناعية الكورية الجنوبية لتصدير السيارات والهواتف المحمولة. غالبا ما تتميز فرق "الكي-بوب" الكورية بوجود أعضاء ذوي أنماط مختلفة، يتحدثون لغات مختلفة وأحيانا يأتون من بلدان مختلفة. تميل كلمات الأغاني ومقاطع الفيديو إلى أن تكون أقل فجورا من نظيرتها الغربية، مما يجعلها مقبولة من قبل الرقابة والآباء في معظم أنحاء العالم. لقد سارع الفنانون الكوريون الجنوبيون إلى تبني التكنولوجيا الجديدة، فعلى سبيل المثل، تعتبر البلاد رائدة في مجال "الويبتون"، وهو شكل من أشكال القصص المصورة تصمم بشكل يتطلب التمرير الى أسفل على شاشة الهاتف لمشاهدتها. اليوم يهيمن الكوريون على سوق "الويبتون" في اليابان.

الأهم من ذلك، تناول الفنانون الكوريون الجنوبيون قضايا عالمية في أعمالهم الفنية. تتطرق مسلسلات تلفزيونية مثل "لعبة الحبار" و"المجد" (موضوع التنمر) الى قضايا الظلم الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يلقي بظلاله على الجماهير العالمية التي "تشارك في معاناة مماثلة"، كما يقول جين دال يونغ من جامعة سيمون فريزر في فانكوفر، كندا.

إرضاء الزعيم

في المقابل، تتحكم الحكومة في الثقافة الشعبية في كوريا الشمالية، وتهدف إلى إرضاء زعيمها الوحيد. ونظرا إلى طبيعة تجارب حياة كيم جونغ أون، حيث تربّى ليكون حاكما مطلق السلطة ويمتلك صلاحيات قتل أي شخص يثير غضبه، فإن هذا لا ينتج دائما محتوى يمكن للشعب التعاطف معه.

 من الناحية الثقافية، فإن الجنوب جلمود عملاق، في حين أن القوة الناعمة التي يتمتع بها الشمال ليست أضعف من التبرير المنطقي لجعل الديكتاتورية الشيوعية وراثية

في برنامج "حكايات الجد القديمة"، الذي يُعرض على شاشات التلفزيون في كوريا الشمالية ويستهدف الأطفال، يظهر ذئبٌ "إمبريالي" يمزق أرنبا. وفي الوقت نفسه، تُعتبر أغنية أطفال كورية جنوبية تحمل عنوان "بيبي شارك" خيارا أكثر شعبيا، وتتميز بمحتواها الأقل دموية. وفي سياق مختلف، يُدعى القراء في سلسلة كتب هزلية بعنوان "عالم مريض ومنحرف" إلى التفكير بالازدراء تجاه العادات الأجنبية المُفسدة، مثل مسابقات الأكل في أميركا.

لكي نكون منصفين، حاول السيد كيم تحديث بعض منتجات بلاده الثقافية. فقد أسس شخصيا فرقة فتيات يرتدين تنانير قصيرة باسم "مورانبونغ" في عام 2012، في وقت كان العالم كله يرقص على أنغام أغنية "غانغنام ستايل". كانت "مورانبونغ" أقرب ما يكون إلى التحرر: قامت عضواتها بأداء أغان غربية مثل "طريقي" والموسيقى التصويرية لفيلم "روكي". ولكن منذ ذلك الحين، أصبحت الفرقة أكثر تحفظا، متخلية عن ملابسها الجريئة لصالح الزي العسكري، وتقدم أغاني مثل "حلق عاليا، علم حزبنا"، وتقدم مقاطع فيديو لصواريخ نووية تدمر أميركا.

AFP
نجم البوب الكوري PSY (في الوسط) يؤدي أغنيته الشهيرة Gangnam Style في عام 2013.

في بعض الأحيان، وعلى الرغم من العقبات، ينتج الفنانون الكوريون الشماليون فنا يخاطب الناس. فيتحدث فيلم "الرفيق كيم يحلق عاليا" عام 2012 عن عامل في مناجم الفحم يرغب في أن يصبح بهلوانا، نال استحسان رواد مهرجانات الأفلام الأجنبية، وقصة "يوميات تلميذة"، التي تحكي قصة فتاة تناضل لتتقبل التزام والدها بعمله، حققت نجاحا كبيرا أيضا.

بعد سنوات من هروبها، كانت الآنسة تشوي ووالداها في السيارة، وقامت بتشغيل بعض الموسيقى الشعبية الكورية الشمالية، بما في ذلك أغنية "صفّر" Whistle. ليست تلك الأغنية التي تغنّيها فرقة "بلاك بينك"، ولكنها أغنية ذات موضوع حب مماثل وأغنية كورية شمالية لا لبس فيها: "اليوم ابتسمت وأخبرتك أنني تجاوزت أهداف الإنتاج بثلاث مرات". شعر والد الأنسة تشوي بالحنين، وإذا تجاوزنا كلمات الأغنية التي تعبر عن القمع، فقد ساعدت تلك الأغاني والدها على أن يدرك أنه "من السليم" أن يشتاق إلى المكان الذي وُلد فيه، حتى لو لم يكن لديه أي رغبة مطلقة في العودة.

تمتلك كوريا الشمالية المواهب: رسامو كاريكاتور قادرون على الرسم، وملحنون يمكنهم تأليف الألحان. ولا يعوقهم سوى حكّامهم. فعندما يتعلق الأمر بالقوة الصلبة، فإن الكوريتين متوازنتان، وذلك بفضل الأسلحة النووية في الشمال. ولكن من الناحية الثقافية، فإن الجنوب جلمود عملاق، في حين أن القوة الناعمة التي يتمتع بها الشمال ليست أضعف من التبرير المنطقي لجعل الديكتاتورية الشيوعية وراثية.

font change