وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي لن تُحدث زلزالا في العلاقات الاستراتيجية بين سوريا وإيران التي يملك مفتاحها "المرشد" علي خامنئي، لكن من دون شك غياب رئيسي، سيعزز المسار الذي وُضعت عليه هذه العلاقات في الفترة الأخيرة. أي مزيدا من الحرارة في "الحضن العربي" والبرودة في "الحلف الإيراني" وإعادة تعريف العلاقة بين دمشق وطهران.
آخر دليلين على التقارب العربي: الأول، تعيين السعودية سفيرا لها في سوريا، لتعزيز التواصل السياسي والرسمي، ضمن خطوات أخرى تشمل استئناف رحلات الطيران واستقبال حجاج عبر وزارة الأوقاف السورية والعمل على تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية. والثاني، مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في القمة العربية بالبحرين منتصف الشهر الجاري.
الأسد حضر القمة العربية السابقة في جدة قبل سنة، لأول مرة بعد عقد من تجميد عضوية دمشق والقطيعة العربية. وقتذاك ألقى خطابا، دعا فيه إلى قطع العلاقات السياسية مع إسرائيل. لكن في قمة البحرين، لم يلق كلمة. التفسير الرسمي أن هذا كان لضيق المدة المتاحة، والتفسير المعارض أنه كان نتيجة خيبة من مسار التطبيع بعد سنة على انطلاقه. لكن استمرار التقارب السوري– السعودي يدحض هذا، ما يعزز احتمال أن وراء الصمت رسالة سياسية تعززت لدى غياب الأسد عن جنازة رئيس دولة حليفة له استراتيجيا وساهمت بقوة في دعمه بكل الوسائل خلال العقد الأخير (هناك سبب آخر يتعلق بإعلان مرض أسماء عقيلة الأسد وخضوع وزير الخارجية فيصل المقداد لعملية جراحية في عينه بموسكو، وتجري اتصالات لترتيب زيارة للرئيس السوري لطهران كانت مقررة آخر هذا الشهر).
الصمت السوري في المنامة والغياب في طهران، يصبان في خانة واحدة: دمشق تجمع بين "الحضن العربي" و"الحلف الإيراني" بطريقة حذرة
الحضور في المنامة والغياب في طهران، يصبان في خانة واحدة: دمشق تجمع بين "الحضن العربي" و"الحلف الإيراني" بطريقة حذرة. ولتفسير ذلك لا بأس من المرور على تطورات رئيسة تحيط بالملف السوري في المرحلة الراهنة.
واضح أن المياه لا تتدفق بسلاسة وحرارة على طريق دمشق– طهران. إسرائيل تلاحق القادة الإيرانيين في الأراضي السورية دون أن تحرك دمشق ساكنا، بل إن هناك من يقول إن مسؤولين سوريين سعيدون بالضغط على إيران. أيضا، هناك تعليمات شفوية وخطية في الحكومة السورية للتقليل من التعامل مع المؤسسات الإيرانية، كما أن مستوى وحدة تبادل الزيارات بين الجانبين، تراجع إلى حد كبير في الفترة الأخيرة بعد تأجيل متكرر لزيارة رئيسي إلى دمشق التي حصلت بداية العام.
في الجانب الآخر، هناك تدفق في العلاقات والاتصالات والزيارات العربية. صحيح أن هناك توترا ضمنيا خصوصا بين سوريا والأردن، أدى إلى إلغاء الاجتماع الوزاري العربي مع الجانب السوري الذي كان مقررا في بغداد يوم 8 من الشهر الجاري بناء على طلب عمان، وصحيح أن الجانبين السوري والأردني تبادلا رسائل قاسية عبر الأقنية الدبلوماسية، لكن اللقاء الأخير بين المقداد ونظيره أيمن الصفدي في المنامة، سيعطي فرصة لمحاولة جديدة من أجل تطبيق الالتزامات المتبادلة بموجب "خريطة الطريق". وجاء تعيين السفير السعودي ليوفر مظلة لمسار التقارب وحل عقده.
بين البرودة مع طهران والحرارة مع العرب، حصل تطور مهم في واشنطن. مكتب الرئيس الأميركي تواصل مع الكونغرس لسحب مسودة قانون لمناهضة التطبيع العربي مع الأسد
بين البرودة مع طهران والحرارة مع العرب، حصل تطور مهم في واشنطن. مكتب الرئيس الأميركي جو بايدن تواصل مع الكونغرس لسحب مسودة قانون لمناهضة التطبيع العربي مع الأسد (تم إقرار مشروع قانون آخر يتعلق بمحاربة الكبتاغون). التفسير الأولي أن مسودة القانون تعتبر تدخلا في صلاحيات الرئيس، وأن إقرارها يشكل سابقة في التداخل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. لكن التفسير السياسي أن مسؤول الشرق الأوسط بريت ماكغورك، لا يريد "تكبيل يديه" في التفاوض مع دمشق ولا يريد التدخل في خيارات حلفاء أميركا، لذلك تدخل باسم الرئيس لمنع تمرير مشروع القانون. لا يمانع الديمقراطيون والجمهوريون من الإبقاء على عقوبات "قانون قيصر" وأغلب الظن أنه سيمدد نهاية العام، لكن فريق بايدن يراها ضمن أدوات الضغط على دمشق.
دول عربية محورية تمضي بخياراتها السورية وفق مصالحها في الإقليم
إضافة إلى الإشارات الجديدة من إدارة بايدن، تعزز الانقسام الأوروبي إزاء التعاطي مع دمشق. مقابل تشدد فرنسا وألمانيا وبريطانيا والمحاكمات التي تجري لمسؤولين سوريين في عواصم عدة، خطت دول مثل إيطاليا وقبرص واليونان خطوات إضافية للتطبيع الدبلوماسي مع دمشق. وحصلت نهاية أبريل/نيسان زيارة لمسؤول تشيكي رفيع إلى دمشق لأول مرة منذ عقد، كما زارها سراً مبعوثون سياسيون ورؤساء أجهزة استخبارات أوروبيون.
هذه الخطوات ليست متناقضة، بل أقرب إلى التناغم في المنطقة التي تهب عليها رياح التطبيع في أكثر من اتجاه. أميركا ودول أوروبية لم تعد تعرقل أقنية التواصل مع دمشق. ودول عربية تريد التحرك ضمن هوامش العقوبات الغربية. ودول عربية محورية تمضي بخياراتها السورية وفق مصالحها في الإقليم.
عليه، مع حضور القمة والغياب عن الجنازة، تقيم سوريا بين "الحضن العربي" و"الحلف الإيراني"، ويكون صمتها في المنامة استمرارا للصمت على القصف الإسرائيلي للمصالح الإيرانية في سوريا.