هل هناك أمل في أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية في معظم الدول العربية وتتجاوز المشكلات الراهنة وتقلع في اتجاه التنمية المستدامة؟ عندما نستعرض الأوضاع العربية عموما نجد أنها لا تزال تعاني من المشكلات الأمنية والسياسية، ونتائج الحروب والخلافات والصراعات الأهلية التي دمرت البنى التحتية، وعطلت القدرات الإنتاجية، وأدت إلى فقدان حياة مئات آلاف المواطنين العرب، منهم من كانوا في ربيع العمر وكان يمكن أن يساهموا في العمل الإنتاجي في مختلف القطاعات.
مرت على الدول العربية منذ حرب الأيام الستة في يونيو/حزيران 1967، العديد من الكوارث والحروب. فقدت مصر في تلك الحرب نحو 20 ألفا بين قتيل ومفقود، في حين سقط في سوريا 2,500 قتيل وفي الأردن 6 آلاف قتيل. ناهيك عن الجرحى والأسرى الذين تشوهت حياتهم وأصبحوا عاجزين عن العطاء. كذلك فقدت الدول العربية الأجزاء الثلاثة المهمة من أراضيها بعد أن استولت إسرائيل عليها، ودمرت المعدات العسكرية التي كلفت هذه الدول مبالغ مهمة في تقديرات تلك الفترات.
مسلسل انهيار الثروات
لم تتوقف الخسائر عند نتائج حرب يونيو/حزيران، التي انعكست على عدد من الدول العربية متمثلة بصراعات مثل أيلول الأسود في عام 1970 في الأردن، ثم الحرب الأهلية في لبنان التي امتدت من عام 1975 إلى عام 1990، وأودت بحياة 120 ألف انسان، ناهيك عن تشريد عشرات الآلاف ونزوح أكثر من مليون مواطن من مناطق سكنهم. تلك الحرب أدت إلى تدمير القدرات الصناعية وتعطيل النشاط السياحي، وانهيار المباني السكنية والتجارية، وخسارة قطاع الأعمال إمكانات صناعة الثروة، ولا يزال لبنان ينزف الى اليوم.
أدت الحرب في العراق الى تحوله من بلد يملك أصولاً مالية وازنة، إلى بلد مثقل بالديون الخارجية. نتج عن الحرب تخريب المناطق الجنوبية وأراضيها الزراعية ودمار مزارع النخيل
ظل مسلسل الدمار مستمراً وجاءت الحرب الكارثية بين العراق وإيران، بعد سقوط نظام الشاه وتولي رجال الدين السلطة في إيران. الحرب التي استمرت ثماني سنوات خربت العراق، وكذلك أجزاء مهمة من إيران، وتذكر مصادر أممية موثوق بها أن الحرب أدت إلى مقتل أكثر من مليون شخص من الطرفين وكلفت البلدين 400 مليار دولار. اعتمد العراق على تمويلات من دول الخليج، أدت إلى تحول البلاد من بلد يملك أصولاً مالية وازنة قبل بداية الحرب إلى بلد مثقل بالديون الخارجية. نتج من الحرب تخريب المناطق الجنوبية وأراضيها الزراعية ودمار مزارع النخيل الواسعة. وسعت الحرب أيضا رقعة الفقر وتعطيل الأعمال في القطاعات الصناعية والخدمية.
لا أفق للخراب
في عام 1990، وبعد سنتين من نهاية الحرب مع إيران، قام العراق بغزو الكويت واحتلالها بدلا من أن يصيغ خطة تنمية وتعاون مع الدول الشقيقة في الخليج. انتهى ذلك الاحتلال بدمار واسع في كلا البلدين وفرض عقوبات اقتصادية صارمة دفعت الملايين من العراقيين إلى مستويات غير مسبوقة من الفقر والعوز. لم تتوقف المأساة بعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، حيث ظل العراق محاصراً اقتصادياً، وأدى تعنت النظام إلى عملية اجتياح البلاد من القوات الأميركية والحلفاء وسقوط النظام وتدهور الأوضاع السياسية وصراعات أهلية وقيام نظام سياسي لم يوفق في تطوير الحياة السياسية ووضع آليات تنموية مفيدة حتى الآن.
النزاعات في الدول العربية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وبعد ما أطلق عليه "الربيع العربي" في 2011، أدت إلى مزيد من الدمار والخراب والموت وفقدان الأمن وتعطيل الاقتصاد
النزاعات التي وقعت في الدول العربية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، وبعد ما أطلق عليه "الربيع العربي" في عام 2011، أدت إلى مزيد من الدمار والخراب والموت وفقدان الأمن، مما عطل إمكانات العمل الاقتصادي المفيد في أكثر من بلد عربي.
يعجز المرء عن سرد أحداث معلومة لدى الجميع منذ بداية هذا القرن لا تزال آثارها قائمة ومتمثلة بعدم الاستقرار وفقدان الوفاق الوطني وتعطل جاذبية الاستثمار وهروب الشباب وعناصر قوة العمل خارج الأوطان جرياً وراء الرزق في دول بعيدة وقريبة.
...واليوم مأساة غزة
الآن، وبعد مأساة حرب غزة هل يمكن أن تتوقف الحروب والصراعات وتتجه الدول العربية نحو التنمية وإعادة بناء الدول بعد كل الخراب الكبير الذي امتد على مدى نصف قرن؟
فقدت غزة ما يقارب 35 ألفا من مواطنيها بينهم نسبة مرتفعة جدا من النساء والأطفال، ناهيك عن أعداد كبيرة من الجرحى والمعوقين، ودمار شامل للمساكن والمستشفيات والمرافق والبنية التحتية. ستكون تكلفة إعادة الحياة الطبيعية للقطاع، الصغير في مساحته والمزدحم بكثافة سكانية كبيرة، ربما أكثر من 50 مليار دولار. من سيوفر الأموال؟ وهل هناك إمكانات لبرنامج مماثل لمشروع مارشال في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؟
الشباب يستحق الحياة
هل ستوفق الأمم المتحدة والدول العربية الأساسية في التوافق على نظام سياسي مقبول يمكنه إدارة غزة والضفة الغربية وتنفيذ برنامج الإنقاذ الاقتصادي؟ ثم هل يمكن أن نشهد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة بموجب القرارات الأممية وتوقف تعنت إسرائيل المدمر؟ لا يمكن أن تعزز فرص التنمية من دون أن يسود السلام في الأراضي الفلسطينية وأن تنسحب إسرائيل من هذه الأراضي بموجب القرار 242 الصادر في عام 1967 والذي يؤكد أهمية وضع حد للاحتلال الاسرائيلي.
تستحق الأجيال الجديدة، التي لم تتعرف إلا على النزاعات والحروب، حياة أفضل وفرص عمل وتعليما
من المهم جدا أن يراجع العرب تاريخهم المعاصر، وأن يضعوا حداً لكل النزاعات المدمرة التي مرت على بلدانهم وعطلت الحياة، والتوافق في كل بلد عربي على صيغ سياسية ملائمة تعزز الاستقرار وفرص التنمية الاقتصادية. الأجيال الجديدة، التي ربما لم تتعرف إلا على النزاعات والحروب، تستحق حياة أفضل وفرص عمل وتعليما يعتمد على التطورات التقنية الحديثة. العالم العربي سريع النمو السكاني، فقد ارتفع عدد السكان في الدول العربية من 223 مليونا في عام 1990 إلى 436 مليونا في الوقت الحاضر. يعيش 80 في المئة من السكان في 8 دول هي مصر والجزائر والسودان والعراق والمغرب والسعودية واليمن وسوريا. ترتفع نسبة الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً في عدد من الدول العربية إلى ما يقارب الـ70 في المئة من العدد الإجمالي للسكان، مما يؤكد ضرورة الاهتمام بالتعليم وصناعة فرص العمل والارتقاء بجودة الحياة.
التنمية المستدامة تتطلب إنهاء التوتر ووضع حد للصراعات والحروب المستعرة، وبناء مستلزمات الثقة والتوافق الاجتماعي، وقيام أنظمة سياسية تستوعب كل التوجهات الثقافية من أجل تعزيز الاستقرار السياسي والأمني.