الممعن في بهرجة المشهد الأدبي اليوم، لا بدّ أن يلتقط علامات لظواهر طارئة يتصدّرها الكاتب نفسه، ألطف ما يمكن أن ننعتها بالابتذال، وهذا قليل من كثير لا تتقصّد به هذه الملاحظات اللاذعة شخوصا بعينهم بقدر ما تتقصدّ ظواهر أمست تقليدا شائعا لا غير:
من علامات ابتذال الكاتب أن يغادر منطقته الخطيرة والنبيلة ككاتب، وينزلق صوب منطقة التاجر، إذ يروّج لنفسه برعونة: تجدون كتابي في هذه المكتبة وهذا الشارع. أفدح من ذلك، لم يتبق سوى نسخة في هذا الدكان، فسارعوا للظفر بها. أما البؤس ذاته، فحين يرفع عقيرته دون خجل: لمن يودّ اقتناء روايتي فليتصل بي شخصيا على هذا الرقم.
من علامات ابتذال الكاتب أن يشنّ حملة هوجاء، أشبه ما تكون بحملات اللعبة الانتخابية الرديئة، محاولا بكل الطرق الرخيصة استدراج أكبر عدد من معارفه إلى حفل توقيع كتابه، إنه يسعى بتلفيق وابتزاز كي يحشد جمهرة حوله، فالجوقة في اعتقاده الركيك هي معيار النجاح. مع هذا النوع من الكُتّاب الملفّقين غدت حفلات توقيع الكتب أهم بكثير من الكتابة ذاتها، ومن طرائف ذلك أن يتصيّد كل مُقْتنٍ لكتابه على حدة، دون استثناء، بأن يلتقط معه صورة، حتى ينشر مهرجانا منها في أحد وسائط التواصل والهدف الأخرق: النجاح المنقطع النظير للحفل... عجبا كيف غدا الكاتب –هو- من يطلب أن يتصور مع القارئ، وليس العكس!
من علامات ابتذال الكاتب أن يروّج لحماقة "الأكثر مبيعا"، مسلّعا بذلك جمال ما يكتبه ورافعا لقيمته التجارية على حساب قيمته الفنية
من علامات ابتذال الكاتب أن يروّج لحماقة "الأكثر مبيعا"، مسلّعا بذلك جمال ما يكتبه ورافعا لقيمته التجارية على حساب قيمته الفنية. بل هناك طائفة من الكتاب يزعمون في كل مناسبة نفاد كتبهم بالمئات، وعجبا كيف لم تنفد الألف نسخة من كتبهم التي لا تزال قيد طبعتها الأولى منذ سنوات عجاف.
من علامات ابتذال الكاتب أن يمدح ما يكتبه باستمرار، بل يفرط في الثناء والإطراء على كل ما ينشره، ولا يجد حرجا في الاعتداد بوهم نجاح هو من يسبغه على نفسه، نجاح موهوم لا يوجد إلا في استيهامات رأسه. أما المصيبة فأن تصير عدوّه، بل هدفا لشتائمه المسعورة إن قلت رأيا معاكسا لم يرقه في ما يكتبه عن نفسه بإفراط، ولا يتوانى في أن ينعتك بعدوّ النجاح (والنجاح في أقصى أشكاله مفهوم تجاري محض).
من علامات ابتذال الكاتب أن يرهن قيمة وجدوى ومعنى ما يكتبه إلى قيمة الجوائز، فكأنّ الجائزة هي المطلب الأول والأخير للكتابة، وكأن الجائزة هي المعيار الوحيد لحقيقة العمل الفني.
من علامات ابتذال الكاتب أن يسعى بكل ما أوتي من تلفيق ومكر وخداع إلى تحقيق غباء النجومية، كأنما ينافس في ذلك نجوم الغناء والسينما وكرة القدم... النجومية شيء زائف في الأدب، والكاتب الحقيقي يسعى لكي يكون كاتبا فعلا لا غير.
من علامات ابتذال الكاتب أن يسقط في فخ طائفة ذكية من القراء، يجاملونه في ما يستدرجونه بحذاقة إلى مسرحهم، فيتعرّى أمامهم وهو يظن العكس. دون أن يعي ذلك، يتقزّم تحت الضوء الكاشف، فيفضحه غروره المفرط أو تفضحه قائمة أمراضه وعاهاته المستديمة، ولا يني يظهر بائسا أجوف أمام أنظار العالمين.
من علامات ابتذال الكاتب أنْ لم ينجح بعد في كتابة نص حقيقيّ يشفع له كي يكون كاتبا بالفعل، وبدل أن يسعى إلى تحقيق ذلك، ينصّب نفسه عرّابا للنوع الذي يحاول أن يكتب فيه، فيبدأ بتوزيع الصكوك.
من علامات ابتذال الكاتب أن يرهن قيمة ما يكتبه إلى شيء خارجي (كثرة الحضور في المناسبات) لا أن يرهنه إلى شيء داخلي ( القيمة الجمالية لكتابته).
من علامات ابتذال الكاتب أن يبادر إلى اصطناع لقاءات هنا وهناك حول كتابته، ويحشد لها نقّادا أو ما شابههم تحت الطلب، كي يضمن عشرات القراءات في تجربته، يجمع شتاتها في ما بعد في كتب موازية، كي يوهم الكل بخطورته وجدارته وذيوعه المبين.
من علامات ابتذال الكاتب أن يستأجر أشباه مترجمين لأعماله، فيدفع تكلفة ترجمتها الركيكة إلى أكثر من لغة، نعم، أيا كانت الترجمة، وكيفما اتفق، المهم أن يوهمنا بأنه صار بقدرة قادر كاتبا عالميا، يقرأ له الكون بجميع اللغات.
من علامات ابتذال الكاتب أن يزعم بوقاحة أنى اندلعت ثورة، أو صخبت حادثة اجتماعية، بأنه تنبّأ بذلك في كتابه، أو كتابُه كان السبب في حدوثها بالأحرى.
من علامات ابتذال الكاتب أن يترك حرفة الكتابة، ويمتهن حرفة الكلام
من علامات ابتذال الكاتب أن يتحدث بإسهاب عن كتابه قيد النشر، بل ويرتكب حماقة أكثر من حوار يفضح فيها عمله الذي لم يخرج للوجود بعد، ما يشبه عملية إجهاض له في ألطف الصور.
من علامات ابتذال الكاتب أن يلجأ إلى سلطته كإعلامي كي يلمّع صورته ككاتب. أبدا صورة الإعلامي المنذورة للجمهور لن تعوّض صورة الكاتب المنذورة للقارئ.
من علامات ابتذال الكاتب أن يبتزّ طلابه أو تلاميذه، مكرها إياهم على شراء كتابه، كشرط من شروط امتيازات التنقيط.
من علامات ابتذال الكاتب، أن يتوسّل بمؤسسة حزبية كانت أو غير ذلك، بلوغ شأن أدبي خالص. القيمة الحزبية لتراثه السياسي، كجواز سفر إلى السطو على قيمة أدبية مفقودة.
من علامات ابتذال الكاتب أن يترك حرفة الكتابة، ويمتهن حرفة الكلام.