سوزان عليوان... الشعر بوصفه مسألة شخصية وعزاء خاصاhttps://www.majalla.com/node/317891/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B3%D9%88%D8%B2%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D8%A8%D9%88%D8%B5%D9%81%D9%87-%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%B4%D8%AE%D8%B5%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%B9%D8%B2%D8%A7%D8%A1-%D8%AE%D8%A7%D8%B5%D8%A7
ما أن يبدأ القارئ بتصفّح ما تكتبه الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان حتى يشعر فورا أن عليه أن يستعد للإقامة في حيّز صغير وخاص. فكرة الحيّز الصغير والخاص تسري على المعجم القليل والشخصي تقريبا الذي تجري به كتابة القصائد، وكذلك على المناخات الحميمة التي تدور بين سطورها. مناخاتٌ فيها أيضا شيء من القلّة التي – بدورها – تسري وتتسرّب إلى كل شيء تقريبا في هذه الكتابة التي تكاد تكتفي بما هو حميم وقريب وشخصي. كتابة هامسة وزاهدة ومنجزة باستعارات شعرية خافتة وكلمات تبقى في محيط الذات.كتابة تصدر أيضا في "طبعات محدودة وخاصة" وتوزّع باليد، أو تتاح للقراءة في الموقع الإلكتروني الخاص بالشاعرة.
ملاحظاتٌ وتوصيفاتُ كهذه، سبق لها أن رافقت عددا من مجموعات عليوان الشعرية السابقة، وها هي تحضر أيضا في إصدارها تسع مجموعات دفعة واحدة، بعدما كانت توقفت مدة عشر سنوات عن النشر.
مساحات صغيرة
نقرأ وتستمر في داخلنا فكرة أن هذا شعر مكتوب داخل مساحات شخصية صغيرة. شعرٌ يبقى داخل نفسه، ويكتفي بأن يُدوَّن في مقاطع وصور واستعارات مُنجزة بعدد قليل من الكلمات التي لا تذهب بعيدا في الانشاء والبلاغة، ولا تذهب بعيدا عن محيط الشاعرة نفسه. "وكأن العالم يكتمل بمفردات أقل"،كما تقول هي في واحدة من قصائدها الجديدة. كأن صاحبة ديوان "لا أشبه أحدا" لا تريد أن تشبه إلا نفسها. إنها مشغولة بمجاراة ذاتها ومجاراة فكرتها عن الشعر، ولا يعنيها أن تنافس أحدا ولا تريد أن تبذل جهدا أكثر من الجهد الذاتي الذي غالبا ما يكون على مقاس المزاج. الزهد في المنافسة يُعفي هذا الشعر من "رسميّة" المشهد الشعري العام وضجيجه ويمنحه عزلة اختيارية لطيفة وثمينة، ويفسح له مساحة جانبية خارجة عن السياق من دون ان يعني ذلك تفوقا او ميزة بديهية بل هو مجرد مزاج شعري خاص. إنه شعر مكتفٍ بنفسه تقريبا. مُنضوٍ تحت رايته الخفيضة.
هناك نقلة ما في نصوص الشاعرة، متأتية من تراكم الخبرة داخل التجربة ذاتها والمعجم نفسه
وحتى حين يبتعد هذا الشعر عن المساحات القريبة من صاحبته، فإنما كي يعود ويُضيف ما عَلِقَ به إلى المقتنيات الشخصية والعالم الصغير الذي انطلقت منه، مع ملاحظة أن ذلك يعزّز فكرة العالم الصغير من دون أن تتوسّع مساحته بشكل مجاني وملحوظ. إنها الشاعرة التي كتبت يوما "أسافر وأعود/ في خيط سجادة".
استمرار هذه التوصيفات لا يعني بالطبع أن هذا الشعر يُراوح في مكانه. المقصود هنا أن هذه التوصيفات باتت جزءا جوهريا من تجربة الشاعرة، وأنها تظل ترافق كتابتها حتى وهي ترتاد مساحات أخرى أو تنشغل بموضوعات مختلفة. وهو ما يحدث في المجموعات الجديدة، إذ نجد أن هناك نقلة ما في نصوص الشاعرة، نقلة متأتية من تراكم الخبرة داخل التجربة ذاتها والمعجم نفسه.
فبالإضافة إلى توسيع بعض المناخات السابقة وترسيخها أو الحفر أكثر فيها، نجد نصوصا تسمح بدخول تفاصيل أخرى إلى المشهديات والموضوعات التي تحدث فيها. نجد مدنا وأمكنة وأسفارا. نجد فقدا ورثاء. نجد ذاكرة شخصية مع ندوبها، ونجد تفاصيل عائلية (فقدان الأب). مجموعة "رثاء ندفة الثلج" مثلا، وهي الثالثة في ترتيب إنجاز المجموعات التسع، نص واحد بمقاطع متتالية في رثاء صديقة أو قريبة لها. ومجموعة "بريد باريس" (الخامسة ترتيبا) مؤلفة من مقاطع مكتوبة كلها في ظلال ومعالم المدينة وأسماء بعض شعرائها وكتّابها وأمكنتها. الجديد أن هذه المساحات تترافق مع ازدياد جرعات النثر في القصائد التي يتحول الكثير منها إلى نصوص منفلتة من انضباط القصيدة ومن توتر الصور والاستعارات. هكذا نقرأ نصوصا تجمع بين السعي الشعري وتأريخ وتعداد مجريات تحدث في الواقع أو في الذاكرة. هذا ما نجده في مجموعة "أمشي على كلمات الرمل" مثلا، وفي مواضع عديدة في المجموعات الأخرى. نصوص تتخفف من توتر العبارة لصالح السرد والنثر المسترسل.
منطق النثر
هكذا يمكننا أن نقرأ استعارات مشدودة مثل "كالربيع/ يؤلمُني أن أتفتّحَ ثانية" أو "كلُّ هذا الجَمال/ جاءَ من بَعْدِنا"، إلى جوار مقاطع مكتوبة على سطور طويلة وكاملة. هناك الكثير من القصائد المكتوبة بمنطق النص النثري حيث تكون القصيدة اشبه بكتلة نثرية وليس تلك المكتوبة بجمل قصيرة على سطور متتالية، خصوصا أن بعض النصوص يبدو مثل يوميات أو ذكريات شخصية تعاد كتابتها داخل سياقات مفتوحة على الأمكنة والمدن والأسفار. رغم ذلك، لا تتسامح الشاعرة كثيرا مع هذا النثر، إذ يظل محافظا على صور واستعارات هنا وهناك. الحقيقة أن هذه الصور، سواء في النصوص المسترسلة أو في القصائد المنضبطة، تكاد تلخص جوهر الكتابة في تجربة عليوان التي تُبدي عناية فائقة بكل صورة وكل جملة وكل كلمة. بعض القصائد تبدو مؤلفة من صور وتشبيهات متتالية.
كأن عمل الشاعرة هو البدء بصورة ثم البحث عن صورة أخرى تخيطها بالأولى ثم تعثر على ثالثة ورابعة. وفي الأثناء تلتقط الكتابة أنفاسها وتُفسح في المكان بين صورة وأخرى لكلمات وجمل من النوع الذي يربط السياق أو السطر أو المقطع الشعري كله. ولو تأملنا عناوين المجموعات التسع فإنها ستبدو مثل سلسلة من الصور والإحالات الشعرية: "شارع نصف القمر/ مرثية ندفة الثلج/ قمصان واسعة على وحدتي/ بريد باريس/ دفتر محصّل الدموع...".
في قصائد عديدة نشعر أن القصيدة كلها أو النص كله كُتب من أجل سطر أو جملة أو صورة شعرية واحدة. فجأة تضيء تلك الجملة أمام القارئ وتجعل النص كله مقبولا وثمينا حتى ولو كانت الإضاءة في سطوره الباقية أقل.
كأن عمل الشاعرة هو البدء بصورة ثم البحث عن صورة أخرى تخيطها بالأولى
العناية الشديدة تتحول أحيانا إلى نوع من التحلية والزخرفة وإن كانت زخرفة غير سطحية أو ساذجة. هناك انشغال أشبه بالمنمنمات وأعمال الصاغة. لا يصيب ذلك بنية النصوص وشعريتها بضرر كبير، ولكن القارئ ينتبه إلى أن هذا يتكرر كثيرا، وينتبه إلى أن ذلك صار ممارسة مفضّلة لدى الشاعرة، خصوصا إذا تذكّرنا أنها تُرفق نصوصها برسوم ولوحات بتوقيعها هي. هناك جماليات وتفاصيل تزيينية لا تتخلى عنها الشاعرة. إنها جزءٌ من فكرة أن الكتابة هي مسألة شخصية وحميمة، وأنها تتغذى على حياة وذكريات حقيقية تُعاد كتابتها وفق منطق شعري.
الشخصي في ما تكتبه سوزان عليوان يبدو بالنسبة إليها مثل "إمتاع ومؤانسة" مع اللغة والكلمات. مؤانسة ومواساة وعزاء أيضا، حيث الاحتفاء بالعالم والأشياء تُغلفه غالبا غلالة من الأسى والحزن. أسى يظل رغم كثافته يتجول في الصور وتحت سطح النصوص، ذلك "لأن الجرح الأعمق لا يسيل" بحسب تعبير الشاعرة. ولأن "الوردة أصغرُ قليلا من الجُرْحِ الذي في ذاكرتي"، كما كتبت في مكان آخر. وداخل كل ذلك يطلّ الحب في قصائد عديدة. ولكنه حب مفقود وحزين وأسيان أيضا، أو بحسب الشاعرة، إنه "الحبُّ في طبعة وحيدة/ نافدة".