"بوينغ" في عين العاصفة الجوية
الشركة مهددة في سمعتها وتسجل خسائر في إيراداتها وتراجع في الطلبيات
"بوينغ" في عين العاصفة الجوية
تتوالى الأخبار السيئة المتعلقة بالمجموعة الأميركية لصناعة الطائرات، "بوينغ"، التي تعيش أخطر أزمة في تاريخ صناعة الطيران المدني منذ مئة عام، بسبب حوادث جوية متكررة، واتهام بإخفاء معطيات فنية والتلاعب في تقارير تقنية، من شأنها تهديد سلامة الملاحة التجارية العالمية، خصوصا "بوينغ 737 ماكس"، التي منها انطلقت المتاعب والضربات الموجعة لسمعة أفضل شركة طيران تجارية في العالم، قدمت خدمة عملاقة للإنسانية منذ نشأتها عام 1916 على يد ويليام بوينغ، وربطت بين القارات الخمس على مدى أكثر من نصف قرن، خصوصا عبر الناقلة الشهيرة "747 جامبودجيت".
تحقيق فيديرالي قضائي
قررت هيئة الطيران الفيديرالي الأميركية (FAA) فتح تحقيق قضائي عن ما إذا كانت "بوينغ" قدمت تقارير خاطئة عن الفحوص الضرورية على أجسام عدد من الطائرات، ومنها "787 دريملاينير" العابرة للمحيطات، وما إذا كانت تلك التقارير خضعت لتدليس وتلاعب موظفين في الشركة، بعدما تبين أن معطيات كشفها موظفون سابقون توفوا في ظروف غامضة، تفيد بإخفاء عيوب تقنية داخل أجسام بعض الطائرات التجارية، لا سيما فئة "ماكس".
وقال المدير التنفيذي لشركة "بوينغ"، ديف كالهون، الذي يعتزم مغادرة المجموعة قبل نهاية السنة، تحت ضغوط الكونغرس ووسائل الإعلام الأميركية، "إن تركيزنا الكامل ينصب على اتخاذ الإجراءات الشاملة لتعزيز الجودة في التصنيع، بما في ذلك إفادات الموظفين الذين يقومون بهذا الفحص يوميا وعددهم 737 موظفا". وفي جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ الأميركي، قال كالهون "إنني هنا اليوم بروح من الشفافية والاعتراف بالأخطار لما حدث، وأتقاسمه معكم بكل ما استطيع فعله". وأضاف بنوع من الثقة في النفس "ليس لدينا طائرات في الجو لا تتوفر على 100 في المئة من السلامة".
تكرار الحوادث والأخطاء وضع طائرة "بوينغ 737 ماكس" تحديدا والشركة عموما في قفص التحقيق وسوء السمعة
لم تكن تلك الإفادات كافية لإسكات المطالبين برأس ديف كالهون الذي وجد نفسه مضطرا للدفاع عن سمعة الشركة الأقدم والأضخم في العالم، بعدما تلطخت سمعتها بتكرار حوادث الطيران بشكل غير مسبوق منذ عام 2019، تاريخ سقوط طائرة "بوينغ 737 ماكس" التابعة للخطوط الجوية الإثيوبية، ومقتل كل ركابها في فاجعة هزت قطاع صناعة الطيران.
صعوبات مستمرة
واتهمت "بوينغ" حينها بالتقصير بعد حوادث سقوط مماثلة وألزمتها السلطات الفيديرالية الأميركية فحصا شاملا على طائراتها لا سيما "ماكس 737" التي ظلت جامدة على الأرض لشهور طويلة في جل مطارات العالم (150 دولة)، وتوقف شرائها لحساب شركات طيران كانت متخوفة من هذه الموديلات حتى بعد انصرام أزمة "كوفيد-19".
وحتى بعد جلسات الاستماع أمام الكونغرس في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، تعرضت رحلات عدة إلى صعوبات في الإقلاع والهبوط، آخرها كان مطلع مايو/أيار الجاري في مطار دكار في السنغال، حيث جرح سبعة ركاب بسبب انحراف طائرة عن المدرج. وقبلها بيوم واحد، تعطل خروج إطار العجلات الأمامية في طائرة تابعة للخطوط التركية في مطار إسطنبول. لكن أخطرها وقع في مطار أتلانتا في ولاية جورجيا عند انفصال عجلة لطائرة "757" تابعة لشركة "أميركان دلتا"، وهي تستعد للإقلاع صوب مطار بوغوتا في كولومبيا. وقبلها بأسابيع وقع حادث خطير مشابه عندما انشطر مُغلق الأبواب من طائرة "737 ماكس"، وهي في الجو في رحلة داخلية بين مطار بورتلاند بولاية أورغون ومطار أونتاريو في ولاية كاليفورنيا.
اعترافات موظف سابق
دفعت هذه الأحداث المتكررة وكالة مراقبة الطيران المدني إلى وقف تحليق هذا النوع من الطائرات، على الرغم من أن "بوينغ" أدخلت تعديلات على 171 من أصل 218 طائرة من هذا الصنف المتهم بضعف الأمان. وقالت "بوينغ"، "إن الأمر يتعلق بطائرات قديمة بعضها في الخدمة منذ 32 سنة تحتفظ بها شركات طيران عدة" بحسب موقع "إيرفلتس" (airflets.net)، إلا أن التبرير لم يكن مقنعا لأن جل الحوادث وقعت لطائرات حديثة أو متوسطة العمر.
ربطت وسائل إعلام دولية بين وفاة موظف طرد من "بوينغ" بعد مرض غريب ومفاجئ، وبين الضغوط الممارسة لإسكات موظفين تعرضوا لطرد تعسفي
وكان موظف سابق في مصانع شركة "بوينغ" في سياتل، في ولاية واشنطن شمال غرب الولايات المتحدة على المحيط الهادي، كشف عن حالات إخفاء لحقائق تقنية بوجود عيوب في بعض أجسام تلك الأنواع من الطائرات. وقد تعرض هذا الموظف، ويدعى جوشوا دين، إلى التسريح من الخدمة برفقة زملاء آخرين.
وربطت وسائل إعلام دولية بين وفاة هذا الأخير عن عمر 46 سنة بعد مرض غريب ومفاجئ، وهو كان بصحة جيدة ويمارس الرياضة البدنية، وبين الضغوط الممارسة لإسكات موظفين تعرضوا لطرد تعسفي من "بوينغ" عند حديثهم عن وجود أعطاب تقنية محتملة. وفجرت حالات الانتحار والوفيات الغامضة لعاملين سابقين فضيحة في سمعة الشركة العملاقة، دفعت بالمسؤولين الكبار إلى تقديم استقالتهم، أو التواري إلى حين مرور العاصفة التي يبدو أنها تتحول إلى إعصار.
خسائر مالية وإلغاء طلبيات
من النتائج المباشرة لما تعانيه "بوينغ" من اتهامات وتقصير في السلامة الجوية، تراجع الأوضاع المالية واحتمال تراجع بعض الطلبيات الكبيرة من شركات طيران عملاقة. إذ أفاد تقرير لمجموعة "بوينغ" أنها خسرت 2,2 مليار دولار في عام 2023 مع الاستمرار في السعي لوقف الخسائر الفادحة من أعمال الطائرات التجارية، التي تواجه مشاكل مستمرة في الجودة، وتدقيقا جديدا من إدارة الطيران الفيديرالية. وكانت "بوينغ" تكبدت خسائر بلغت 5 مليارات دولار عام 2022، ونحو 18 مليار دولار عام 2020، بعد سقوط الطائرة الأثيوبية، ومنع "ماكس 737" من الطيران لفترة طويلة تزامنت مع جائحة "كوفيد-19" وأزمة السياحة والسفر.
تراجع الطلبيات من 5626 طائرة تحت التصنيع مطلع عام 2024 إلى 5599 طائرة في نهاية الربع الأول
وباحتساب نشاط الأعمال التجارية فقط، خسرت "بوينغ" 1,6 مليار دولار عام 2023. لكن الخسائر في تراجع وهي أفضل من نتائج عام 2022 حيث بلغت الخسائر 2,3 مليار دولار. وزادت إيرادات الشركة 30 في المئة العام المنصرم، وانتقلت إلى 34 مليار دولار. وتتوقع "بوينغ" أن تتجاوز مبيعاتها 400 طائرة السنة الجارية، بمعدل 38 شهريا.
عام صعب على "بوينغ"
تواجه الشركة أخطر مرحلة في تاريخها قد تتجاوز تداعيات اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية. فمن جهة، تواجه "بوينغ" متاعب قضائية، وتحقيقات فيديرالية، ومساءلات برلمانية، ومتابعات إعلامية، ومن جهة أخرى، تخسر بعضا من سمعتها وأسواقها وريادتها العالمية. وتراجع دفتر الطلبيات من 5626 طائرة تحت التصنيع مطلع عام 2024 إلى 5599 طائرة فقط نهاية الربع الأول، وخلال الشهرين الأولين سلمت "بوينغ" 54 طائرة وأصبحت في المرتبة الثانية، وراء "إيرباص" الأوروبية التي سلمت 79 طائرة.
الثقة مستمرة
على الرغم من تراجع مبيعاتها نحو 30 في المئة شهريا منذ مطلع 2024، إلا أن "بوينغ" لا تزال تحظى بثقة كبار شركات النقل الجوي العالمية.
فللمرة الأولى منذ عام 2019، تعاقدت الصين لشراء طائرات "بوينغ 737 ماكس" لحساب خمس شركات طيران محلية، منها "إيرتشانيا"، و"تشاينا ساوذرن"، و"كزيامن إيرلانز". كما تسلمت شركتا "فلاي دبي" و"الاتحاد" الإماراتيتان طائرات حديثة من نوع "بوينغ دريم لاينير" خلال الربع الأول من العام، لاستخدامها في المسافات الطويلة. وتنتظر الخطوط الملكية المغربية تسلم 12 طائرة جديدة من "737 ماكس" و"دريملايينر" خلال الأشهر المقبلة، وتسعى "المغربية" إلى رفع أسطولها إلى 200 طائرة بحلول عام 2030 استعدادا لاستقبال نحو 27 مليون سائح لمناسبة استضافة نهائيات كأس العالم.