في خريف عام 1861، وصل مندوب عن الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن إلى دمشق، حاملا مسدسين حربيين هدية للأمير عبد القادر الجزائري. كان لينكولن حديث العهد في البيت الأبيض، توجه مندوبه إلى دار الأمير الكائنة في زقاق النقيب خلف الجامع الأموي ليقدمها له، اعترافا بدوره الكبير في حماية مسيحيي المدينة أثناء الأحداث الدامية التي شهدتها دمشق صيف عام 1860. وكانت ملكة بريطانيا فيكتوريا قد سبقته بإرسال سيف مرصع للأمير، وقلده بابا الفاتيكان وساما، وحصل على وسام الشرف من إمبراطور فرنسا نابليون الثالث.
في عام 1915، وبعد سنوات طويلة على وفاة الأمير عبد القادر، أُطلق اسمه على مدينة في ولاية أيوا الأميركية، ولاحقا سميت إحدى المنح الدراسية باسمه في جامعة فيرجينيا، وأقامت الأمم المتحدة ندوة حول دوره الإنساني عام 2006، ووضع تمثال له في إحدى قاعاتها، وسُمي كرسي حقوق الإنسان في اليونيسكو باسمه. فمن هو هذا الرجل الجزائري– نزيل دمشق في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته– الذي احتفى به قادة العالم؟ يصادف اليوم الذكرى الواحدة والأربعين بعد المئة لوفاة الأمير عبد القادر الجزائري يوم 26 مايو/أيار، وتقوم "المجلة" بنشر مقتطف من سيرته.
من المعتقل إلى دمشق
ولد الأمير عبد القادر في قرية قريبة من مدينة معسكر غربي الجزائر سنة 1808، وأسس الدولة الجزائرية الحديثة قبل أن يحمل السلاح في وجه الفرنسيين يوم غزوهم لبلاده. حاربهم طيلة سبع عشرة سنة متواصلة، واعتقل على أيديهم، مع أولاده ورجاله وكل أفراد أسرته. تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب في سجن أمبواز الفرنسي- وبعض أنصاره وأقربائه ماتوا في المعتقلات، ودفنوا في مكانهم- قبل أن يأمر نابليون الثالث بإطلاق سراحهم. استقبل الإمبراطور الأمير عبد القادر وكرمه، ثم عرض عليه الانتقال إلى أي بلد يريده إلا الجزائر، فاختار دمشق التي كان قد عرفها شابا أثناء مروره بها مع أبيه في سفرهم إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. وكان نابليون نفسه قد ذاق طعم الاعتقال إبان محاولاته الانقلاب على سلفه الملك لويس فيليب الأول، ولهذا السبب لم يرغب في مواصلة اعتقال الأمير، وتدخل شخصيا للإفراج عنه. وقد عوضه براتب سنوي يقارب ستة آلاف فرنك، وفقا للأعراف الملكية التي تقتضي احترام الخاسر من أنداد الملوك في حروبهم.
وفي سنة 1855، وصل الأمير إلى دمشق ومعه نحو مئتي رجل من كُتاب وخدم وأتباع، لُقبوا جميعا بـ"الجزائري" حتى وإن لم يكونوا من أسرة الأمير. استقبله الشيخ محمود الحمزاوي، الذي انعقدت بينه وبين الأمير روابط المصاهرة، وباعه سلسلة من الدور في زقاق النقيب بحي العمارة، التي أخذت اسمها لأنها ملك لنقباء الأشراف من آل الحمزاوي.