ما يصيبه الرحالة من اجتهاد في كتاباتهم عن رحلاتهم، يقع في خانة الجهد والمعرفة بالطبع، إلا أن غزافيه دوميستر كتب أدبا للرحلات دون ترحال، رحلة حول غرفته المربعة كما يصفها، لكنه في ما بعد أثّر على كتابات مارسيل بروست وفيكتور هوغو وغيرهما، لِتُعد رحلته المنجزة عام 1794 من أهم الرحلات الأدبية المكتوبة في تاريخ الغرب، ومع ذلك اسمه غير مشهور، ولم يعرفه العالم بشكل كاف، ويبدو أن العنوان هو ما أثار اهتمام كبار الكُتّاب في العالم، في زمن انتشار الأسفار واكتشاف العوالم الشرقية والأفريقية والآسيوية البعيدة، وزمن لهفة الناس لقراءة أدب الرحلات، على الرغم من أن فكرة كتابه هذا، لا تسافر إلى أي مكان، فموضوع العمل هو الحرص على مقاربة التفاصيل ورغبة العثور على المتعة، من خلال ثقافته الواسعة، خاصة لمن لا يستطيع السفر.
وما ألهم الادباء هو تعمقه في المشاعر الخفية، مقتبسين منه أفكارا أخرى استمدت من فكرته التي تدور بأكملها في مساحة غرفته، ليرحل إلى مواقف وحوارات خيالية وفلسفية عن محيطه اليومي كفرد، رحلة بقيت قريبة من الجدار إلى الجدار، لكنها ستكون أطول رحلة، صعودا وهبوطا وعبورا من دون قاعدة أو خطة.
قرأتُ الكتاب مترجما من اللغة الفرنسية إلى العربية من خلال أمين حسن، وصدر في زمن كوفيد19، وفترة الإغلاق، وكأنه صدر من أجل استحضار الإبداع في الحبس الإلزامي، فهو يناقش غرفته وأثاثها ولوحاتها ومرآتها... غرفة في منزله بتورينو الإيطالية، بسبب حكم ما، وهو رسام ومؤلف من سافوا الفرنسية، وجندي مرّ بظروف سياسية وحروب.
في رحلته المحبوسة هذه يفكر دوميستر في الصداقة والموت، ويستمتع بالرسم والشعر
في رحلته المحبوسة هذه يفكر دوميستر في الصداقة والموت، ويستمتع بالرسم والشعر، ولعل الفرد الوحيد الذي يراه بشكل فعلي هو خادمه، فيسخر من التفاخر، ماضيا إلى تصنيف تفاصيل الكتب ومحتوياتها على الرف بجانبه، وكرسيه المتحرك، وأغطية الفراش، والألوان، فينتقد نفسه وما يكتبه من فصول، خاصة المرآة التي لم يجرؤ أحد على انتقادها، فهي لكل من يشاهد نفسه فيها لوحة مثالية، فينظر إلى وجهه من دون أن يعيد النظر، خاصة من وقعوا في حب ذاتهم وملكهم الحب، ولا يزالون تحت وطأة المرآة العاكسة والخادعة.
الكتاب يجعلك تنصت وتكابد معا، محرضا العين على القراءة، فمؤلفه عازف موسيقي ورسام وفيلسوف، يتساءل بشكل عابر حول مسألة التفوق بين فن الرسم الساحر، وفن الموسيقى، وكأنهما في ميزان، وكيف أن الموهوب يفضل الرسم على الموسيقى، فاللوحة تخلد ذكراه، بينما الملحنون يتركون حفلات وأعمالا أوبرالية، وهي عرضة للموضة السعيدة، وعلى الرغم من السعادة التي توفرها لكل من يتنفس، إلا أن قيمة فن اللوحة من قيمة الفنان، بدليل لوحات رافائيل التي سحرت أجيالا... ويذهب بعيدا في المقارنة التفصيلية اللذيذة بطعم السفر إلى أن ينتهي في الشك.
أما نافذته المطلة على الطبيعة الخضراء، فهي تؤلم مشاعره، وكأنه يؤسس خيالا بشرط وجوده، فالطبيعة غير مبالية بمصير الأفراد، والعصافير أمامه تغني تحت أوراق الشجر، وكل الطبيعة تتنفس الفرح، وليس الإنسان بالنسبة الى الطبيعة سوى مجرد شبح يتبدد في الهواء، مستثمرا ذكاءه في الأسئلة، ومستعدا بعناية لمكر الأجوبة.
رحلته الفكرية الشيقة تأخذ المتلقي إلى خيال المصاحبة والصداقة في ترحاله، خاصة حين يقسم الإنسان ميتافيزيقيا، ويحلله بين الجسد والروح، وهما مختلفان ومتشابكان، وعلى الرغم من وصف أفلاطون الجسد بالمادة، يصف دوميستر الجسد بالوحش، فهو الذي يحدد السلطة التشريعية، بينما الروح لها السلطة التنفيذية، لتتعارض السلطتان، ويصبح سفره دليلا حول كيف تربي وحشك وتجنبه المشي بمفرده، وكيف لروحك أن تتحرر من العلاقة الصعبة هذه، وكيف لهما أن يصغيا أحدهما إلى الآخر.
كأن شيئا ينمو في تلك الغرفة والعزلة التي تزخر بكل ثروات العالم وبمتعة التفاصيل
قرأت مجلدات عن الأسفار وأدب الرحلات، ولا يخفى على أحد كتاب الرحلات العلمية والجغرافية لألكسندر فون هومبولت، خاصة وهو يتسلق الجبال والقمم ويتحدى المنحدرات، ويصارع الأسماك الضارة، وقرأنا ابن بطوطة وهو يسافر العالم بقصصه المكتوبة، وابن الفضل... إلا أن دوميستر يتجول في غرفته واثقا من نفسه، غير مبال، ولا يشتاق إلى الحياة الخارجية، ورغبته تكبر في أن يمكث بملل الحياة في غرفته واكتشاف الأعاجيب، مع محبرة وأوراق، وأقلام جاهزة وشمع ختم... هذه الأشياء البسيطة جعلته الشخص الأكثر كسلا التواق إلى الكتابة، وكأنها الكتابة المضادة للسفر، في 42 فصلا، كل فصل صفحة أو صفحتان، والأهم الصبر حتى نشعر بالازدهار الذي يحصل في قلوبنا وعقولنا كقراء، وكأن شيئا ينمو في تلك الغرفة والعزلة التي تزخر بكل ثروات العالم وبمتعة التفاصيل دون أن يغفل معاني الأساطير الفنية والفلسفية، كلما هدده الإحباط وهو يستشرف العالم، حتى النهاية معربا عن أسفه لاضطراره للعودة إلى المجتمع.