"كان" 77: محمد رسولوف... أن تعيش بحقيبة جاهزة

صدرت ضدّه أحكام بالسجن والجلد

AFP
AFP
المخرج الإيراني محمد رسولوف  في مهرجان كان السينمائي، جنوب فرنسا، في 24 مايو 2024

"كان" 77: محمد رسولوف... أن تعيش بحقيبة جاهزة

السينما الإيرانية، من تلك السينمات المتأملة الهادئة في كثير من الأحيان، يلجأ صناعها عادة إلى ما يُسمّى "الصورة المفتوحة" التي تحتفي بالبطء واللقطات الطويلة، مما يضفي عليها شعرية من نوع خاص. وقد استطاعت خلال العقود الأخيرة تثبيت مكانتها بين السينمات العالمية، وكذلك المشاركة، بل وتحقيق الفوز في أكبر المهرجانات السينمائية. علاوة على ذلك، تعد صناعة السينما في إيران من أكثر الصناعات نشاطا، حيث تنتج ما يقارب مائة فيلم سنويا. وذلك على الرغم من ملاحقة السلطة الإيرانية للسينما وللسينمائيين، وسجن العديد منهم أو منعهم من ممارسة الإخراج من الأساس، مما اضطر المخرج الإيراني جعفر بناهي إلى وصف فيلمه، في نوع من السخرية، بـ"هذا ليس فيلما"(2011) حين منع من صناعة الأفلام.

السينما المستقلة

لمزيد من الإيضاح، لا بد من الإشارة إلى نوعين من السينما الإيرانية: تشغل السينما الشعبية القسم الأكبر منها وهي التي تحظى بدعم وتقدير الدولة بمحليتها المفرطة. في المقابل، ظهر نوع آخر من الأفلام طبقت شهرتها الآفاق، وهي سينما مستقلة يعمل صناعها في الخفاء على نحو يشبه لعبة القط والفأر بين السلطة الإيرانية وصناع الأفلام، ساهمت في خلق أجواء درامية ومثيرة تفوق ما يحدث في الأفلام. بدأت هذه الدراما مع انتقال إيران من حكم الشاه محمد بهلوي إلى ولاية روح الله الخميني (1979)، في ظل تداعيات الثورة الإسلامية التي قادها الخميني، حيث عمل مجموعة من المخرجين -فرادى أو جماعات- على صنع أفلام مقاومة للسينما السائدة، التي لم يخرج معظمها عن تكرار للتوليفات المصرية والهندية. شكلت هذه الأفلام ملامح الموجة الجديدة في السينما الإيرانية، وامتدت إلى وقتنا هذا.

رحلة الهروب

محمد رسولوف مخرج من إيران، وهو من هؤلاء، الذين تمكنوا من الهروب من طهران عبر طرق جبلية سيرا، بعدما أصدرت محكمة طهران في يناير/كانون الثاني الماضي، مجموعة من الأحكام ضده جراء "اقترافه جريمة" إخراج فيلم "بذرة التين المقدس". تنوعت العقوبات بين السجن والغرامة ومصادرة الممتلكات، بالإضافة إلى الجلد عقوبة لشربه الخمر، حيث حرز رجال الشرطة زجاجات النبيذ حين دهموا شقته.

 تنوعت العقوبات ضد رسولوف بين السجن والغرامة ومصادرة الممتلكات، بالإضافة إلى الجلد

إنها الأحكام الأشد قسوة في تاريخ القضاء الإيراني مع مخرج، لذلك كان على رسولوف الانصياع التام للدليل المرافق وسماع التعليمات كافة وتنفيذها، في مقدمها، التخلص من كل أجهزته الرقمية التي يمكن تتبعها. ربما يفاجئنا رسولوف مستقبلا بمشهد لرجل يلقي بأشيائه على الطريق واحدا وراء الآخر: الموبايل، التابلت، اللاب توب، وما إلى ذلك، أما حاليا، فلم يكن عليه سوى مواصلة الرحلة للوصول إلى فرنسا لحضور العرض الأول لفيلمه، المشارك ضمن المسابقة الرسمية للدورة 77 من مهرجان "كان" السينمائي الدولي.

لا تحوي جعبة رسولوف سوى عدد قليل من الأفلام, يقابلها الكثير من الجوائز والاتهامات، بدأت منذ فيلمه الثاني، "المروج البيضاء"(2009) وكانت تهمته التصوير دون تصريح، أما عن تهمه الجديدة جراء فيلمه الأحدث، فقد صرح محاميه في العديد من الصحف الدولية أن من بينها التصوير دون ترخيص، وإظهار الممثلات بشعورهن دون غطاء. ومن المعروف أن القانون الإيراني يفرض ارتداء الحجاب على النساء ضمن مجموعة من القيود يمارسها النظام على الجميع، مختصا الفن والسينما. حين وصل رسولوف إلى الحدود الألمانية بعد مسيرة مرهقة استغرقت ساعات طويلة، استدعى رحلته عبر الجبال كشريط سينمائي مثير، يأتي على غير توقع وبعكس سيناريوهات أفلامه الهادئة. يؤكد في أكثر من تصريح أن تلك الإثارة هي حال كل الإيرانيين..، فـ"جميعهم لديهم حقيبة جاهزة" حيث خبروا قانون الارتحال والعيش داخل حيوات متشعبة.

العيش بحقيبة جاهزة

ولد محمد رسولوف في مدينة شيراز عام 1972، وهي من المدن الإيرانية الكبرى وإحدى العواصم القديمة لعدد من الدول التاريخية. يمارس الكتابة والإنتاج بجانب الإخراج وقد بدأ حياته بالعمل في الأفلام القصيرة والوثائقية، في سنة 2002 حصل فيلمه الطويل الأول، "الشفق"، على جائزة أفضل فيلم في "مهرجان الفجر السينمائي الدولي"، أحد أهم المهرجانات المقامة في إيران. تدور أحداث الفيلم داخل أحد السجون الإيرانية من خلال رحلة نفسية أشبه بالصوفية بين شخصيات الفيلم. يستند الفيلم إلى أحداث حقيقية ويُحسب للمخرج مزجه بين الوثائقي والروائي لصالح العمل.

AFP
رسولوف عند وصوله لعرض فيلم "بذرة التين المقدس" في الدورة الـ77 لمهرجان كان السينمائي

غالبا ما تقوم أفلام رسولوف على ثيمة الارتحال، المجازي منه والواقعي، لذلك نلاحظ البطل في أفلامه يسير على خطى بطل هوميروس في الأوديسة الشهيرة، من هنا نراه لا يكتفي في أفلامه بقصة خطية ذات بعد درامي واحد أو متنام، بل يحتفي في معظمها بعدد من الحكايات المتجاورة التي تحمل في كل منها حياة منفصلة تتصل بمتن الحكاية الرئيسة. في فيلم "المروج البيضاء"(2009) يصنع من رحلة رحمات، بطولة حسن بورشيرازي، عقدا تتضح حباته بالتوالي على مدار الفيلم، متنقلة من حكاية إلى أخرى خلال الرحلة. يعمل رحمات على جمع الدموع من الحزانى والمكلومين، منتقلا بقاربه الصغير بين أهالي جزيرة مالحة يعيش سكانها في جماعات متباعدة. على مدار ثلاثة عقود –مدة عمله- جمع رحمات ملايين القطرات من الدموع، لكن عينيه لم تشاركا في هذا الحدث، فهو لا يحمل سوى وجه عابس ومحايد في الوقت ذاته ونبرة صوت ثلجية، يتخفّى خلف لحيته الكثيفة ويتعامل مع الدموع بقدسية مذهلة ولا يكف عن تنظيف حاملة الدموع بشكل دائم "حتى يعلم الباكي أن دموعه ثمينة".

رحلة غرائبية

يأخذنا المخرج من خلال بطله إلى رحلة غرائبية تشتبك مع واقع سحري، خصوصا حين يرى بعض المسنين من الأهالي أن ملوحة البحر تزداد يوما بعد يوم. يؤكد أحد العجائز بحسرة أن السماء لم تعد تحمل لهم سوى الضغينة، فهي تأتي بالسحب السوداء ولا تجلب الغيث. لذلك نرى مجموعة تقوم بتقديم قربان حي كما كان يفعل الفراعنة مع فيضان النيل، على أن تكون عروسا حسناء يشهد عدد من رجال العائلة على عذريتها، وفي بقعة أخرى يجمع الأهالي التضرعات ويحبسونها داخل أوان زجاجية مغلقة، يقوم أحد الشبان بحملها والنزول بها أسفل البئر لتوصيلها إلى جنية تقبع هناك وتعمل على حراسة البحر، كما تقول الجدة الكبيرة.  

رأت السلطات أن فيلمه يعمل على الدعاية السلبية للنظام وهو ما يمثل خطورة على الأمن القومي

شاعر آخر من الأهالي حكم عليه بالسجن ووضع بول القرود في عينيه حتى يعود إلى صوابه، فقد بات يرى مياه البحر المالحة حمراء بعدما فقدت زرقتها المعتادة، وقد لجأ المخرج إلى تبطيء حركة الكاميرا لصنع لقطات أشبه بالصور الفوتوغرافية وذلك للتوثيق. في نهاية الفيلم، يفاجئنا رسولوف بعبثية الوضع حين نكتشف أن الدموع المجمعة تصب في النهاية عند قدمي عمدة القرية الهرم الجالس على كرسيه المتحرك في انتظار غسل قدميه بالدموع للتشافي، ولا ينسى أن يطمئن من رحمات على رعيته قبل الرحيل: "هل الجميع بخير؟"، فيرد عليه: "كلهم بخير!".

ستاره مالكي ومهسة رستمي وسهيلة كلستاني في "بذرة التين المقدس"

في عالم مشابه، يقدم رسولوف فيلمه "جزيرة أهاني" أو "الجزيرة الحديدية" (2005)، بطولة المسرحي المخضرم على نصيريان ويقوم بدور الحاكم. وحتى لا يذهب عقلك بعيدا، فهو مجرد حاكم على سفينة نفط ضخمة معطلة منذ سنين يتخذها مجموعات من الناس وطنا لهم. ينطلق رسولوف في حبكته من حكاية سفينة نوح، إلا أن الوضع هنا مختلف كليا على المستويين الواقعي والأيديولوجي، فركاب السفينة ليسوا ممثلين للبشرية بل ينتمون إلى المجتمعات الفقيرة والمتدنية التي لم تجد سوى هذا الكيان المتداعي ليكون بديلا للسكن. الأهم من ذلك، هو تمسكهم المستميت بسفينة على وشك الانهيار، بل يذهب البعض منهم إلى سرقة أجزاء من السفينة المتهالكة للمنفعة، وهو ما يفتح الباب لعدد من الرمزيات تخص إيران ونظامها المستبد وما قد يترتب عليه من انهيار قد يأتي على الأخضر واليابس.

عطلة سعيدة للشيطان

يعتبر رسولوف من الضيوف الدائمين على مهرجان "كان"، منذ فيلمه الأول. في السابق خاض تجربة السجن كمعظم الإيرانيين. عاد رسولوف من "كان" ومعه الجائزة الذهبية في فئة "نظرة خاصة" عن فيلمه "رجل النزاهة" (2017). لم يكن في انتظاره سوى بعض المحبين وعدد من الاتهامات الموجهة، حيث رأت السلطات أن فيلمه يعمل على الدعاية السلبية للنظام وهو ما يمثل خطورة على الأمن القومي. سجلت إيران في هذا العام –بحسب بعض الإحصاءات- أعلي نسبة تنفيذ عمليات إعدام في العالم. حبس رسولوف ومرت السنون وبقي موضوع الإعدام حبيسا داخله مثل حاجة يعقوب، وفي عام 2020 يُفرج عن مشروعه مغيرا الدفة عما اعتاد سابقا، وذلك بالتوجه بفيلمه الجديد "لا وجود للشيطان" إلى وسط أوروبا ومهرجان برلين في عرض أول عالمي ويقتنص جائزة الدب الذهبي.

يتناول رسولوف في فيلمه فكرة الإعدام عبر أربع حكايات، يعمل بطل أول حكاية موظف تنفيذ لأحكام الإعدام (عشماوي) كما يطلق عليه شعبيا في عدد من الدول، ويقوم بتجسيده بأداء متميز الممثل إحسان ميرحسيني الذي استطاع تقديم عشماوي وقد خرج من الصورة الكلاسيكية للمهنة، فلم يعد مضطرا لتنفيذ الحكم من الاقتراب الشديد من المتهم، سماع نبضات قلبه المتلاحقة أو الاحتفاظ بكلمات أخيرة لإنسان يواجه الموت، ضيعت التكنولوجيا كل هذا، مجرد ضغطة على زر من بعيد وينتهي كل شيء.

في حكاية أخرى يتناول رسولوف أحد الجوانب الخفية والقاسية لقانون الإعدام في إيران، والذي يحتم على الجنود القيام بتنفيذ أحكام الإعدام، مما يذهب بالبعض إلى ما يشبه الجنون وهو ما يؤدي في بعض الأحيان إلى انقلاب الآية، فمن يجب قتله هو مصدر الأوامر نفسه وليس المتهم. من هنا ينتقل السيناريو بين الواقعي والمتخيل في بقية الحكايات، فقد يكون الهارب في القصة الأخيرة هو نفسه ذلك الجندي المتمرد في السابق. نجح المخرج في مناقشة الموضوع نفسيا وفلسفيا مبتعدا عن المباشرة الأيديولوجية والأفكار الرمزية، رغم ذلك نجده يسخر من خلال العنوان بمباشرة صريحة، فلم يعد الشيطان في حاجة إلى العمل كما السابق، حيث تكفلت السلطات المستبدة كل المهام، وزيادة.

كما يحدث في الأفلام

فضلا عن فيلمه الجديد، "بذرة التين المقدس"، شارك محمد رسولوف ثلاث مرات في مهرجان "كان" من قبل، بدأها بفيلم "وداعا" ثم "المخطوطات لا تحترق" و "رجل النزاهة"، عرضت جميعها في قسم "نظرة خاصة". حاز الأول والثالث جائزتي أفضل إخراج وأفضل فيلم.

أعلن عدد من صناع السينما على مستوى العالم، تضامنهم مع رسولوف في معركته إزاء تعنت السلطات في إيران

يتناول فيلمه "بذرة التين المقدس"، كواليس عالم القُضاة. قبل العرض بأيام قليلة، أعلن عدد من صناع السينما على مستوى العالم، تضامنهم مع رسولوف في معركته إزاء تعنت السلطات في إيران ومع الفنانين المستقلين في العموم بما وصفوه بـ"المعاملة اللإنسانية"، من بين هؤلاء المنددين كما ورد في مجلة "فارياتي": الممثلة زهراء إبراهيمي، بطلة الفيلم الإيراني المميز "عنكبوت مقدس"، والمخرج الألماني من أصول تركية فاتح أكين، والمخرجة البولندية أنيسكا هولاند، والممثلة اليونانية الشابة إرياني لابيد، والممثلة الألمانية ساندرا هولر، بطلة الفيلم الذي كان حديث العالم العام الماضي، "تشريح السقوط".

AFP
رسولوف يحمل صورة الممثلة الإيرانية ميساج زاريه (يسار) والممثلة الإيرانية سهيلة كلستاني (يمين) بعد عرض فيلم "بذرة التين المقدس" في كان السينمائي

على جانب آخر، أبرم العديد من شركات التوزيع اتفاقات لشراء حقوق عرض الفيلم في أميركا الشمالية وإيطاليا واليونان وإسبانيا، وغيرها من الدول الأجنبية، مع غياب متوقع للشركات العربية. في النهاية، ستتجه التساؤلات حول مصير المخرج نفسه مع سيناريو الهروب الذي فرض عليه، هل سيستمر في الفرار أم سيعود لتنفيذ العقوبات، ربما تخبرنا الأيام المقبلة عن ذلك، وليس ببعيد مطلقا أن يقوم رسولوف بتسجيل ذلك في فيلمه المقبل، الذي سيجر عليه في الغالب المزيد من التهم والأحكام.

font change

مقالات ذات صلة