مروان رشماوي التائه في ركام بيروت وفلسطين والطفولةhttps://www.majalla.com/node/317826/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%B1%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%83%D8%A7%D9%85-%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D9%88%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%81%D9%88%D9%84%D8%A9
في معرضه الفني الأخير - المستمر حتى 27 يوليو/ تموز 2024 في "غاليري صفير زملر" القريبة من مرفأ بيروت المدمر - يستعيد مروان رشماوي ألعاب الطفولة، بأشيائها وأحجامها وأشكالها المادية، وبمناخها وصورها ومخيلتها وعالمها. والطفولة التي يستعيد الفنان ألعابها ويصنعها، هي طفولته هو وأبناء جيله في أحياء بيروت "الشعبية" وضواحيها، وسواها من بعض مدن وبلدات وقرى لبنان في سبعينات القرن العشرين. والأرجح أن هذه الألعاب عينها، بأشيائها وأشكال صنعها وأسمائها، كانت سائدة بين أطفال وفتيان الستينات والخمسينات، عندما بدأت السيارات تفتن حواس ومخيلات الأطفال والفتيان، فراحوا يصنعون من الخشب والمعدن سياراتهم اليدوية. ثم يتخيلون ويعيشون ويمثِّلون، بحركاتهم وأصواتهم، أنهم يقودونها على الإسفلت، لاهين بها ومستعملين بعضها في الانتقال والنقل من مكان إلى مكان، ومحميلنها أشياء لا يقوون على حملها. وهذا إلى جانب لهوهم بسواها من ألعاب سبقتها زمنا، وكان التراب والحجر والرمل وكرات البلور الصغيرة (الكِلل) والقماش والمعدن والمهملات مادتها الغالبة.
فتوة ضد الأهل
لكن مروان رشماوي الذي صنع أو جهز ألعاب طفولته بحرفيّة فنية وجمالية دقيقة ومتقنة تحاكي الأصل، لم يترك كلا منها في عرضه إياها - وهي مختلفة ومستقلة ومتفردة بفكرتها وشكلها ومواد وصناعتها أو تجهيزها - مشتتة متفرقة، بل هو أخرجها من تفرّقها الزمني والمكاني، وأدرجها في بوتقة متحفية جامعة أضفت عليها بعدا ثقافيا كاشفا.
ذلك أن الداخل إلى معرض رشماوي سرعان ما ينتبه إلى أنه في متحف يحتفي احتفالا جماليا لاهيا بالطفولة - عندما لم تكن منفصلة عن الفتوّة – بألعابها الجسمانية الحركية، المسالمة والعنيفة غالبا، خارج البيوت، في الشوارع والفسحات الرملية والأرض البائرة وعلى الإسفلت أيضا. ذلك أن أطفال ذلك الوقت وفتيانه الذكور أكثر بكثير من الإناث، غالبا ما كانوا يعيشون حياتهم الحرة "الخاصة" في الشوارع والأماكن العامة خارج البيوت. البيوت التي ربما كانت للنوم فحسب، ويعيش الفتيان فيها حياتهم "العامة" المقيدة أو الميتة، في حضور الأهل ورقابتهم.
الداخل إلى معرض رشماوي سرعان ما ينتبه إلى أنه في متحف يحتفي احتفالا جماليا لاهيا بالطفولة
نعم هذا ما يقوله متحف ألعاب الطفولة - والأصح القول الفتوة - من صناعة أو تجهيز مروان رشماوي. ذلك أن الألعاب المعروضة في متحفها هذا هي ألعاب الفتوة، عندما كانت الطفولة مرحلة عمرية يمكث فيها الأطفال في البيوت، قبل أن يشتد عودهم ليمكنهم الجري واللعب في الشوارع، ضد الأهل ورقابتهم غالبا.
وقد تكون التسمية أو العنوان الذي اختاره رشماوي لمعرضه - "أحلام إيكاريوس"، المستعار من أسطورة قديمة في الميثولوجيا اليونانية، هو وسيلته إلى إخراج أشياء المعرض كلها من تفرّقها واستقلالها وافتراض طفوليتها. أما تلك الأسطورة اليونانية فتقول حكايتها إن دايدالوس، المعماري المحترف في مدينة أثينا، كان محتجزا عقابا له في جزيرة كريت، ومعه ابنه الفتي إيكاريوس الذي استعان بأجنحة ثبّتها بالشمع على ظهره، وطار بها محلقا نحو السماء، ولما اقترب من الشمس، ذاب الشمع، فهوى صريعا على الأرض.
وصف مادي للألعاب
أما المكان الذي هوى مروان رشماوي إليه ليكتشف عثراته ومأساته، ويكتشف فيه نفسَه فنانا معاصرا، فهو مدينة بيروت.
وفي لقاء "المجلة" بالفنان مروان رشماوي، وتسجيل مقتطفات من سيرته الحياتية والفنية، لم نسأله عن الصلة بين طفولته وألعابها وبين الأسطورة اليونانية القديمة التي استعارها عنوانا لمعرضه. ففي ناحية من الصالة معلقة طائرة ألعاب الأطفال/الفتيان المصنوعة من ورق ملون وقصب وخيطان. وغير بعيد منها نشاهد على الجدار قرصا معدنيا دائريا صغيرا تتصل به قضبان معدنية صغيرة. إنه قرص الشمس وخيوط أشعتها مطليّة بدهان أصفر رائقٍ وفاتر.
أما إيكاريوس الأسطورة الغائب، فحاضر، ليس كخيط ذهني يشد أشياء المعرض كلها ويجمعها بعضها إلى البعض الآخر في فكرة شكلية خارجية، بل هو حاضر في مناخ المعرض الداخلي وفي الذائقة الفنية التي صنعت تلك الأشياء المادية بحرفية شديدة الإتقان والدقة.
على جدران الصالة نشاهد لوحات متوسطة الحجم، تستعيد مشاهد مادية من زمن الطفولة، ومصنوعة بحرفيّة فنيّة وجمالية هادئة وصاخبة. في واحدةٍ منها طبقة رمادية خافتة، رقيقة وصلبة، من الإسمنت، تتخللها أسلاك معدنية متشابكة تشابكا هندسيا دقيقا. وفي وسط هذه اللوحة وإسمنتها الرمادي، أجمة من شجرات صنوبر قوية الاخضرار فوق جذوع بنّية، ومصنوعة من أخلاط مواد وألوان، تترك صلابتها الشمعية انطباعا بأنها مشرّبة بلزوجة حياة ملجومة وممتنعة عن السيلان.
في وسط لوحة أخرى بالحجم نفسه والمواد نفسها، تنفر من سطح اللوحة كتلٌ شبه حجرية، تمثل خرفانا، رغم صغرها تبدو متضخمة الحجم ومتضائلة الرؤوس والقوائم. وفي لوحة ثانية غيمة شمعيّة زرقاء ممشّحة ببياض يميل إلى زرقة رمادية. وفي رابعة الغيمة نفسها خفتت زرقتها، وتتساقط منها حبيبات مطر يميل إلى اللون الترابي. وفي خامسة أطباق أقحوان ينفجر أحمرها الشهواني ربيعا، وينفجر مثله في ألوان وقطع البوظة المثلجة المتماثلة الحجم في لوحتين منفصلتين ومتصلتين. وفي لوحة أخرى تتدلى أكياس بلاستيكية معبأة بمادة قطنية زهرية، تمثل تلك الحلوى الطفلية السكرية المسماة "غزل البنات" الشبيه بشعرهن.
أسماء خاصة
على مصطبة فسيحة في ناحية من الصالة تُعرَضُ ألعابُ الطفولة، بل المراهقة أو الفتوة: عربة من خشب وعجلات فولاذية صغيرة. "كرّاجة" أو "كريجة" (بلغة تلك ألأيام) من أسلاك حديد، يدفعها الأطفال أمامهم، متخيلين أنهم يقودون سيارة بواسطة مقود ومحرك. وهناك زجاجة صغيرة شفافة تحوي سائلا شفافا، ويخرج من فوهة الزجاجة فتيل قطني، كأنها زجاجة مولوتوف. وفي الزاوية دولاب سيارة داخلي من المطاط الناعم الرقيق الأسود، كان الفتيان يستعملونه ويطفون به أثناء سباحتهم في البحر.
أما إيكاريوس الأسطورة الغائب، فحاضر في مناخ المعرض الداخلي وفي الذائقة الفنية التي صنعت تلك الأشياء المادية
والحق أن أشياء ألعاب الطفولة التي يستعيدها المعرض، كانت لها كلها أسماء خاصة في لغة الفتيان والفتيات القديمة والمنسيّة اليوم. ومنها لعبة "الشّكّة": مساحة دائرية من أرض رملية أو ترابية غير قاسية، يقتسمها الأطفال بالتساوي في ما بينهم، ويقف كل منهم في مساحته ويروح يغزو أرض الآخرين، بأن يرمي واقفا سكينا لتنغرز في أرض اللاعبين الآخرين، فيقطع منها شطرا ويضمه إلى مساحة أرضه. واللعبة هذه غالبا ما كانت من نصيب الذكور. أما البنات فكانت لعبتهم المفضلة تسمى "الإكس" أو "الحجلة": تقفز الفتاة على رجلٍ واحدة في مربعات مرسومة على الأرض، فتدفع بقدمها حجرا صغيرا أو قطعة بلاطٍ صغيرة، ويجب ألا تتجاوز دفعته حدود المربعات. وهناك لعبة "الداما" المستعارة من لعبة الشطرنج، والتي كانت تُستعمل فيها السدّادات المعدنية لزجاجات المشروبات الغازية.
من الركام إلى الطفولة
هذه الألعاب كلها وسواها يستعيدها مروان رشماوي استعادة مادية وفي أحجامها وأشكالها وموادها وألوانها الطبيعية، كأنها صنيعة ماديّة لحلم يقظة سعيد مندثر أو زائل، يعيد الفنان إحياءه بذائقة جمالية وحِرفيّة يدوية ماهرة. وهو في عمله هذا يمحو المسافة بين المادي والحسي والذهني والخيالي، بعمليات تجسيدية دقيقة.
متابع أعمال رشماوي في معارضه السابقة، قد يستغرب هذه الغنائية المادية في استعادته أشياء الطفولة/الفتوة وألعابها. وهي غنائية كانت غائبة تماما من تلك الأعمال التي يمكن القول إنها كانت نقضا للغنائية بالركام الذي كان يصنع منه أنصابا للخراب، خراب بيروت منذ أزمنة حروبها الأهلية (1975- 1990). وهو كان افتتحها في عمل سماه "بيروت كاوتشوك" صنع فيه للمدينة مجسما ضخما من المطاط الأسود الفاحم أو المتفحم بأبنيته وشوارعه. وكرّت بعده معارض الفنان من ردميات بيروت وركامها في زمن إعادة إعمارها بين العامين 1993 و2005، من دون أن يكتمل هذا المشروع. أو هو توقف قبل إنجازه، لتغرق بيروت "العريقة للمستقبل" مجددا في زمنها الموقوف، والانهياري المستمر حتى اليوم.
هل يمكن القول إن مروان رشماوي غادر ركام بيروت أو بيروت الركام، وعاد إلى بيروت أخرى سابقة على أزمنة الحرب والركام؟
لكنه أثناء حديثه عن متحفه/معرضه هذا لألعاب الطفولة/الفتوة، لم ينس أن يشير إلى ركام مرفأ بيروت القريب، الذي اعتبر أنه قد يدشن مرحلة جديدة لفن الركام في بيروت.
فلسطين والشيوعية المسيحيتان
في روايته مقتطفات من سيرته، لم يقل مروان رشماوي المولود سنة 1964 في بلدة الحدث المسيحية، من أب فلسطيني وأم لبنانية - حينما كانت الحدث ضاحية ريفية ساحلية بعدُ، على مسافة 4- 5 كلم جنوب العاصمة بيروت - لم يقل إن بداية حروب لبنان الأهلية نزلت نزول الصاعقة على طفولته/فتوته وألعابها، فأحدثت فيها قطيعة مكانية وزمنية شاملة.
وهذا في بلدة الحدث تحديدا، القريبة من حيث ابتدأت الحرب بين الشياح المسلمة وعين الرمانة المسيحية في 13 أبريل/ نيسان 1975، بسبب الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان. وإذا أضفنا إلى هذه البلدات الثلاث برج البراجنة، المريجة، حارة حريك، والغبيري، بين حرج صنوبر بيروت وسهل الزيتون في الشويفات جنوبا، نكون قد عدّدنا أسماء البلدات الريفية التي فقدت أسماءها، لتطغى عليها تسمية الضاحية إسما علما بلا إضافة، في زمن نهوض سلطان "حزب الله" الأمني وتسلطه عليها، سوى بلدة الحدث التي كانت مسيحية الصفاء السكاني، ويُقال إن ميشال عون أبى إلا أن يضمها بعبقريته إلى "حلف الأقليات المسيحي - الشيعي" في لبنان.
لكن تلك البلدات كانت منذ مطلع السبعينات، قد بدأت تنتقل سريعا، أكثر من الحدث، من نمط حياتها الريفية إلى عمران ونمط حياة الضواحي المأهولة بكثافة المهاجرين للإقامة والعمل والتعليم فيها وفي العاصمة بيروت. هذا فيما استضافت الحدث المسيحية شطرا من مهجري الحرب المسيحيين من المريجة وحارة حريك.
مروان رشماوي بترت بدايات الحرب طفولته/فتوته وألعابها في الحدث وفي بيروت ولبنان كله. وإذا كان ذلك البتر أو تلك القطيعة قد شملت معظم أطفال وفتيان تلك النواحي وبيروت كلها، وانعطفت بهم وبمصائرهم منعطفا حادا، فهجّرت كثيرين منهم ورمت بعضهم في معمعة الحرب، فإن عوامل كثيرة متشابكة أنقذت رشماوي الفتي ومصيره من لبنان وحروبه.
عاملان اثنان متداخلان أنقذاه من ذاك المصير الحربي: فلسطينية والده ومسيحيته الأرثوذكسية. ورشماوي لم يذكر ذلك، لكنه وافق على خلوصنا إليه من هوامش سيرته التي روى فيها أن والده أمضى شبابه كله تقريبا يفرّ من بلدٍ إلى بلد: من قريته الفلسطينية بيت ساحور في الضفة الغربية، نزح إلى مدينة إربد الأردنية. كان فتى أو شابا شيوعيا، فجمع من عمله بعض المال، وسافر إلى القاهرة ودرس فيها الهندسة الزراعية. لكن مصر الناصرية والوحدوية العروبية، وعداء نظامها للشيوعيين، حملته على الفرار من القاهرة إلى بغداد سنة 1958. العاصمة العراقية وانقلابها العسكري القومي العروبي، لم تستضفه أكثر من سنة واحدة، ففرَّ منها سنة 1959 إلى بيروت، حيث تعرّف الشيوعي الفلسطيني المسيحي إلى محمد دكروب الشيوعي اللبناني المسلم الشيعي، وسكنا معا في غرفة على سطح بناية بيروتية.
ولما عمل مخلّص معاملات في سرايا بعبدا، واستطاع الحصول على الجنسية اللبنانية، شأن سواه من الفلسطينيين المسيحيين، أقام من سيصير بعد سنوات قليلة والد مروان رشماوي، في بلدة الحدث الريفية القريبة من بعبدا، وحيث كان ينزل شيوعيون مسيحيون فلسطينيون وعراقيون وسوريون، فارين من بلدانهم.
في بيروت التي عاد إليها مطلع التسعينات، وانطلقت ورشة إعادة إعمارها بعد الحرب، التقى مجايليه الذين أطلقوا فكرة البحث عن فن جديد
وفي الحدث صادق الفلسطيني الشيوعي شيوعيا لبنانيا مسيحيا، فتزوج من ابنته سنة 1963، وأنجب منها طفلهما مروان سنة 1964. ترك الزوج زوجته في ديار أهلها، ثم هاجر إلى السعودية، حيث عمل في إسطبلات الخيول الملكية في الرياض. وبعد مدة قصيرة انتقلت زوجته وطفله إلى الإقامة معه لسنتين في العاصمة السعودية.
وبعدها هاجر إلى قطر وأبوظبي وعمل هناك لسنوات. وحتى نهاية حياته ظلت فلسطين وقضيتها حاضرة في ضميره ووجدانه، من دون أن يتخلى عن معتقده الشيوعي. وكان قد عاد إلى لبنان بعد تقاعده من عمله. وفي العام 2002 كان مصابا بالسرطان لما توفي نهار اغتيال المتهم بمجزرة صبرا وشاتيلا، إيلي حبيقة.
جيل القطيعة الفنية
مثل والده، تقطّعت إقامة مروان رشماوي وحياته المدرسية، وتوزعتا بين الحدث وبيروت والسعودية والإمارات، منذ اندلاع حروب لبنان سنة 1975 وحتى العام 1983، حينما سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية لدراسة إدارة الأعمال.
كان هدفه الحصول على شهادة جامعية تمكّنه من العمل في الإمارات بعد عودته إليها. لكنه لم يعد. فبعد دراسته إدارة الأعمال سنوات في بوسطن، اقترحت عليه صديقته الأميركية التي تدرس فن العمارة، أن يتابع دراسة فن الرسم صيفا. أعجبه الاقتراح، ولم يلبث أن وضع إدارة الأعمال جانبا، وانصرف إلى الرسم، وعمل في موقف سيارات تحت الأرض لتحصيل معيشته. حدث ذلك سنة 1987. وسنة 1991 انتقل إلى نيويورك، بعد دراسته فن الرسم في بوسطن.
"منذ طفولتي كنت أميل إلى تفكيك أشياء وإعادة تركيبها، شغوفا بالعمل اليدوي. وتصير يدي ترعاني، أي أصاب بحكّةٍ فيها، إذا لم أشتغل بها. كأن أُصلح طاولة، أو أصنع ألعابا من الخشب والأسلاك المعدنية"، روى رشماوي.
لكنه طوال دراسته فن الرسم والتلوين في بوسطن ونيويورك بين العامين 1987 و1991، لم يكن فن التجهيز المعاصر مُدرجا في برنامج التدريس الجامعي الذي تلقاه، بل كان يشاهد معارضه في الغاليريهات والمتاحف.
في بيروت التي عاد إليها مطلع التسعينات، وانطلقت ورشة إعادة إعمارها بعد الحرب، التقى مجايليه الذين أطلقوا فكرة البحث عن فن جديد ومعاصر: هو ووليد صادق ووليد عوني وربيع مروة وطوني شكر وأكرم زعتري وغسان سلهب. وكانت تركة الحرب الأهلية وإرثها المقيم ومشروع إعادة الإعمار، شغلهم الشاغل، وكيف يمكن تجسيدها في أعمال فنية جديدة، تُحدثُ قطيعة، خصوصا مع رواد الفن التشكيلي اللبناني منذ الخمسينات.
التخفف من الهويات
نسأل مروان رشماوي: ماذا كان يعني لك في الحدث وبيروت آنذاك أنك فلسطيني، أو من أصل فلسطيني لجهة والدك؟ ساخرا يجيب: كنت شيوعيا لبنانيا وفلسطينيا ضد الإنعزالية في لبنان. وفي هذا السياق لم يقل إن أمه لبنانية مسيحية، بل قال: عندما كان شخص يسألني من أين أنا، وأستشف أنه متشدّد في لبنانيته، كنت أقولُ له مباشرة إنني فلسطيني.
أما إذا كان سائلي فلسطينيا، فأقول له إنني لبناني. وساخرا أضاف: "بين نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، حينما كنت مقيما في كنف جدّي لأمي في الحدث وأتعلم بمدرستها الإنجيلية، كنت أجول برفقة خالي الشيوعي في مخيم برج البراجنة ونوزّع مجلة "الأخبار" الشيوعية. لم أنتسب إلى الحزب، لكنهم أخذوني إلى دورة تدريب عسكري في برجا سنة 1981. وعندما سقط جدار برلين سنة 1989 طلّقت الأفكار الشيوعية طلاقا تاما أو مبرما".
وقال رشماوي إن والده لم يفقد لهجته الفلسطينية حتى نهاية حياته. أما هو فلا تشي لهجته اللبنانية بأنه من منطقة أو طائفةٍ بعينها في لبنان. والأرجح أن الجنسية اللبنانية التي يحملها وورثها عن أهله متخففة من أثقال الهويات الأهلية وعصبياتها وتمزقاتها في لبنان، وربما من سائر الهويات سواها.
هذا فيما هويته الفنية والثقافية، ونمط حياته، تغلب عليهما لبنانية "بيضاء" أو "فاترة". وهي لبنانية مدينية بيروتية مقيمة ومهاجرة في وقت واحد، على الأرجح. أما ثقافته الفنية فمختلطة بذائقة أميركية في عمله الفني اليدوي على تشكيل المواد الحسّيّة وخلطها وإخراجها قوية، بل عنيفة الحضور والتجسيد المادي والبصري.
من الرسم إلى التجهيز والأشياء
في بيروت خراب ما بعد الحرب وإعادة إعمارها، طلّق مروان رشماوي الرسم بالريشة والألوان على قماش اللوحة المؤطرة، واتجه إلى العمل الفني التجهيزي على الأشياء المادية التي تستمد حضورها المادي والبصري المباشر في وجودها الحسي في الشارع. وهكذا ولد مشروعه "بيروت كاوتشوك"، ثم سلسلة أعماله التي حوّلت الركام والردم أعمالا فنية مصنوعة يدويا من مواد البناء وأدواته، بقرارات وقياسات وأشكال مقررة سلفا، ويبعث عرضها في الحواس شعورا كابوسيا أو شبه قيامي. وهو روى أنه في بدايات انتاجه الفني في بيروت منتصف التسعينات، عرض بعض أعماله المصنوعة من الإسمنت والزفت على صاحب إحدى الغاليرهات المشهورة في المدينة. ولما شاهد الرجل تلك الأعمال، قال لرشماوي: "هذا شغل قوي، لكنه كئيب، ولا أستطيع تسويقه".
أعمال "أحلام إيكاريوس" حوّلها الإخراج الفني البصري إلى عمل فني متحفي متجانس ومتكامل
وحتى ما قبل معرضه الأخير، "أحلام إيكاريوس"، كان هذا دأب مروان رشماوي الفني في معظم معارضه، مستعيدا ميله إلى استعمال يديه في تفكيك الأشياء المادية وإعادة تركيبها، منذ طفولته في الحدث، مضيفا إليها دراسته الرسم في أميركا التي زوّدته أيضا ذائقة فنية في التشكيل والتجهيز الحسي للأشياء المادية.
وقبل سنوات قليلة كان رشماوي يعمل على تجهيز هرم من الحديد والزجاج. ولأن قريبه وصديقه منذ الطفولة لديه ورشة صناعية لأعمال الحديد في العبادية، حيث كانا يصطافان ويقيم قريبه وأهله منذ الستينات، أقام مروان رشماوي في العبادية لتجهيز الهرم في ورشة صناعة الحديد. ولما عثر على دفتر قديم يعود إلى أيام صباه في فصول الصيف بالعبادية، ومدونة عليه لائحة بألعاب الطفولة والصبا، ولدت لديه فكرة معرضه الأخير، "أحلام إيكاريوس".
بعد إنجازه الهرم، مكث في العبادية، حيث شرع في استعادة ذكريات وصور طفولته فيها وفي الحدث، وفي إعادة صناعة ألعابها وأشيائها من المواد القديمة إياها: الخشب وأسلاك الحديد والرمل والتراب وعجلات الفولاذ الصغيرة. أما تلك الأشياء التي لا تستعاد صورها ماديا، فعمل على إعدادها وتجهيزها من الإسمنت والأسلاك والألوان والشمع. أي ماديا أيضا، لكن وفق معايير فنية تجسيدية جديدة، أنتجت تلك اللوحات التشكيلية.
لكن أعمال "أحلام إيكاريوس" حوّلها الإخراج الفني البصري، بتقاطعه مع فكرة الأسطورة اليونانية القديمة، إلى عمل فني متحفي متجانس ومتكامل. أما غنائيتها الجمالية فتنطوي على تشكيل مادي بصري، يغادر ما أقام عليه رشماوي مديدا: صناعة أعماله من الردم والركام صناعة كابوسية تستوحي حال مدينة بيروت في الأطوار التي عاشها مروان رشماوي منذ طفولته. وهي الطفولة/الفتوة التي يستعيدها أخيرا زاهية وبغنائية ساخرة ربما، بعيدا عما آلت إليه حال بيروت اليوم.