العلاقة الأميركية-الإسرائيلية... الأسس والأهداف (2-2)https://www.majalla.com/node/317781/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%B3-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D8%AF%D8%A7%D9%81-2-2
في السادس عشر من سبتمبر/أيلول 1997، قَتَلَ صامويل شاينباين، طالب الثانوية ذو السبعة عشر عاما في ولاية ميريلاند الأميركية، بالتعاون مع صديق له في العمر نفسه، قتلا الفريدو اينريك تيلو، ابن الـ19 عاما، بسبب غضب شاينباين على تيلو الذي نال حب زميلته في المدرسة التي يحبها هو من طرف واحد.
كانت الجريمة مُروعة، إذ قُطعت جثة تيلو بعد القتل خنقا وشُوهت أجزاؤها قبل حرقها ووضعها في أكياس نفايات ورميها في مخزن بمنزل فارغ. بعد أيام ظهرَ أن شاينباين هربَ إلى إسرائيل مستفيدا من حقيقة أن أباه وُلد في فلسطين الانتدابية وحصل على الجنسية الإسرائيلية قبل هجرته منها إلى أميركا بعمر 6 سنوات. على هذا الأساس، حصل شاينباين على الجنسية الإسرائيلية ليستفيد من القانون الإسرائيلي النافذ وقتها بمنع ترحيل مواطنين إسرائيليين مطلوبين على جرائم ارتكبوها في بلدان أخرى. رفضت أميركا المنطق الإسرائيلي وطالبت بإعادة شاينباين ليُحاكم فيها بموجب القانون الأميركي.
في سياق مواجهة قضائية وسياسية طويلة وحامية بين البلدين غطاها الإعلام الأميركي، طالبت في أثنائها وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، إسرائيل بإظهار "أقصى درجات التعاون" وهدّد فيها الكونغرس بتعليق المساعدات لإسرائيل إذا لم يُعَد شاينباين لأميركا، بذلت الحكومة الإسرائيلية جهودا كثيرة لتلبية الطلب الأميركي، بينها محاولات إلغاء الجنسية الإسرائيلية عن شاينباين وإعادته لأميركا لمحاكمته هناك.
هدد الكونغرس إسرائيل بتعليق المساعدات الأميركية على خلفية قضية شاينباين
أطاح بهذه الجهود في عام 1999 قرارُ المحكمة الإسرائيلية العليا النهائي وغير القابل للنقض بعدم قانونية حرمانه من الجنسية الإسرائيلية وإعادته لأميركا. في آخر الأمر، حوكم شاينباين في إسرائيل كقاصر وصدر حكم بسجنه 24 عاما مع الحق له بالحصول على إجازات خارج السجن بعد قضاء 4 سنوات من الحكم، وعلى إطلاق سراح مشروط بعد قضاء 16 عاما منه، وهو الحكم الذي اعتبرته أميركا متساهلا مع تقديمها طلبا للإنتربول الدولي باعتقاله ونقله لأميركا.
في عام 2014، قُتل شاينباين في سجن إسرائيلي بعد فتحه النار على حراس السجن، ليُغلق الملف الأميركي على هذه القضية التي أثارت لغطا كثيرا في الولايات المتحدة، وانزعاجا كبيرا بين الأميركيين من أصول لاتينية، المجموعة التي ينتمي إليها الضحية.
بين الأسباب التي منعت الكونغرس من إمضاء تهديده بتعليق المساعدات لإسرائيل الإيمان الأميركي بأن ثمة فصلا حقيقيا بين السلطات في إسرائيل وأن الحكومة هناك حاولت مخلصة إعادة شاينباين لتجنب عواقب الغضب الأميركي، لكنها لم تستطع إجبار السلطات القضائية على إصدار أحكام وقرارات تلبية للمصالح السياسية للحكومة، وذلك بخلاف السلوك الشائع والمتوقع في العالم العربي الذي عادة ما يُعمق سوء الفهم العربي العام للعلاقة بين إسرائيل وأميركا. السبب الآخر هو تشريع الكنيست الإسرائيلي تاليا قانونين الأول في 1999، والثاني 2001، يسمحان- ضمن شروط معينة- بترحيل الإسرائيليين المطلوبين على جرائم ارتكبت في بلدان أخرى.
خدمة الأمن القومي الأميركي
في ثنايا هذه القضية المعقدة، غير السياسية في جذرها وغير المرتبطة بالصراع العربي-الإسرائيلي، التي تواصلت على مدى عامين تقريبا، بتفاصيلها الكثيرة، القانونية والإنسانية، والضغوط السياسية التي نشأت منها، يكمن كثير مما يساعد على فهم العلاقة الوثيقة بين إسرائيل وأميركا، خصوصا في جانبين مختلفين لكن مترابطين.
الأول هو طريقة نظر الساسة والمؤثرين الأميركيين لإسرائيل على أنها نظامٌ سياسي شبيه بالنظام الأميركي جوهره ديمقراطية شفافة يمكن فهمها والتعامل معها على النحو ذاته الذي تنظر فيه أميركا إلى أوروبا الغربية: حليفة قوية وشريكة تجارية مهمة بقيم أساسية مشتركة تجمع الاثنين.
الثاني حرص إسرائيلي مبكر، منذ نهاية الخمسينات، خصوصا بعد المواجهة الإسرائيلية-الأميركية حول الانسحاب من شبه جزيرة سيناء التي احتلتها إسرائيل في المرة الأولى أثناء حرب 1956، بأن تنسجم السياسة الخارجية الإسرائيلية مع مصالح الأمن القومي الأميركي إقليميا وعالميا، وتحاول أن تخدم هذه المصالح بأقصى ما يمكن، أي خلق مصالح مادية مشتركة بين الطرفين تتجاوز التعاطف والمشاعر.
حرصت إسرائيل منذ الخمسينات على أن تنسجم سياستها الخارجية مع مصالح الأمن القومي الأميركي
كان هذا التوجه الأخير يتسق أيضا مع البنية الأيديولوجية لإسرائيل كدولة حديثة قامت على افتراضات غربية وبمساعدة أوروبية تتعلق بمعنى العلاقة بالأرض بوصفها استثمارا وتطويرا رأسماليا لها غير معني بمصير سكانها الأصليين، ونوعية النظام السياسي الذي يحكمها على أساس برلماني ليبرالي يُمكن التعاطي معه مؤسساتيا بسلاسة بغض النظر عن الأفراد/الأحزاب الذين يديرونه (بعكس التجربة الصعبة للعلاقة الغربية مع الدول العربية التي ركزت على الأشخاص وليس المؤسسات).
من هنا لعبت إسرائيل دورا محوريا في دعم المصالح الأميركية في المنطقة، على الأخص، عبر تحولها إلى قلعة سياسية وأمنية فريدة للمعسكر الغربي أثناء الحرب الباردة، لمنع تمدد نفوذ المعسكر الشرقي الذي انضوى فيه أو تعاطف معه معظم العالم العربي. من بين الأنشطة المهمة التي قامت بها إسرائيل بهذا الصدد هو جمع المعلومات الاستخبارية عن الأفعال والتحركات السوفياتية في المنطقة، في الدول العربية تحديدا، كما في تزويدها أميركا بمعلومات استخبارية عن منظومة صواريخ "سام-2" المضادة للطائرات التي نشرتها مصر وأشكال أخرى من التعاون العسكري واللوجستي والدبلوماسي.
عبر هذا كله، أثبتت إسرائيل أنها حليف موثوق لأميركا، فلا أسرار تسربت منها للكتلة الشرقية، بخلاف الارتياب الأميركي بحلفائها العرب القليلين حينها. في الحقيقة، أدت إسرائيل دورا هاما أفاد الولايات المتحدة في احتواء- وتاليا إفشال- النزوع القومي العربي الجارف ذي الميل الاشتراكي المتعاطف مع المعسكر الشرقي والمعادي للغرب الذي تزعمته مصر الناصرية وانضوت فيه سوريا والعراق وليبيا وحركة التحرير الفلسطينية ومعظم الشارع العربي.
وحتى في حالات الخلاف القليلة بين الطرفين، لم تكن إسرائيل تصر على تحدي الولايات المتحدة ومناهضتها علنا، كما كان معظم العالم العربي يفعل بفخر وطني متواصل، وغالبا عديم الجدوى، بل تلجأ إلى تسوية الخلاف، وتمارس ما يمكنها من ضغوط بهدوء وخلف الكواليس لانتزاع أقصى ما يمكن من التنازلات الأميركية.
أهمية "أيباك"
هنا تظهر أهمية "أيباك" (اللجنة الأميركية-الإسرائيلية للشؤون العامة)، التي تأسست نهاية الخمسينات ولم يبرز تأثيرها إلا في السبعينات فصعودا، للترويج للرؤية الإسرائيلية في أميركا بين صناع القرار من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. بخلاف التصور العربي المبالغ به كثيرا بخصوص دور "أيباك" في الحياة السياسية الأميركية على أنها ماكينة ضخمة متنفذة يخشاها الساسة وتتحكم في صناعة السياسات، فإن تأثيرها الأساسي يكمن في براعة ربطها المصالح الإسرائيلية، كما تقررها الحكومة الإسرائيلية وقتها، سواء عمالية أو يمينية، بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بمعنى أنها تحاول إقناع صانع القرار الأميركي بأن حماية هذه المصالح تخدم الأمن القومي الأميركي، وبالتالي تبني السياسات التي "تستفيد" من هذا الربط (وأحيانا كثيرة تفشل "أيباك" في هذه المهمة، رغم أنها جماعة التأثير الأقوى في ميدان السياسة الخارجية).
أحد الأمثلة البارزة على كيفية إدارة إسرائيل خلافاتها مع أميركا هي قضية جوناثان بولارد، المحلل الاستخباري الأميركي ذي الأصول اليهودية، الذي كان يعمل في البحرية الأميركية. اعتُقل بولارد عام 1985 واتُهمَ بالتجسس لصالح إسرائيل ليصدر عليه حكمٌ في محكمة فيدرالية أميركية بالسجن مدى الحياة. اعترفت إسرائيل بأنه فعلا كان جاسوسا لها وقدمت اعتذارها لأميركا وتعهدت، بطلب أميركي، أن لا تكرر أبدا التجسس على أميركا.
على مدى الثلاثين عاما التالية، حاولت كل الحكومات الإسرائيلية تقريبا، ومعها "آيباك"، إقناعَ الإدارات الأميركية المتعاقبة بإطلاق سراح بولارد لأسباب إنسانية أو صحية أو بعفو رئاسي خاص، لكن هذه الإدارات كانت ترفض مدعومة برفض مماثل من جانب مسؤولي وكالات الدفاع والاستخبارات الأميركية المختلفة، فثمة تقليد أميركي راسخ بعدم منح إطلاق سراح مشروط أو العفو عن مدانين بالتجسس لدول أخرى.
تحرص إسرائيل دوما على عدم تحدي الولايات المتحدة ومناهضتها علنا، بل تلجأ إلى تسوية الخلاف في هدوء
حاول الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في 1998 كَسرَ هذا التقليد بعد طلب الحكومة الإسرائيلية إطلاق سراح بولارد، وذلك لضمان قبول إسرائيل صفقة مع الفلسطينيين (اتفاق واي ريفر عام 1998) المتعلق بإنهاء الترتيبات الانتقالية وتنفيذ حل الدولتين. احتجَ وقتها رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية، جورج تينيت، مدعوما بمسؤولين في وزارة الدفاع على التنازل الذي قدمه كلينتون، وهدد بالاستقالة من منصبه إذا أُطلق سراح بولارد، ليتراجع كلينتون عن قراره.
لكن في عام 2015، قرَرَ أوباما منح إطلاق سراح مشروط لبولارد، أيضا بناء على طلب إسرائيلي وضغط متواصل من "آيباك". التبرير العلني الذي أعطاه أوباما لقراره، وهو في سنته الأخيرة بالبيت الأبيض، أن القانون الأميركي يسمح بهذا لأن بولارد قد قضى فترة الحكم المطلوبة (في قضايا التجسس يُعتبر السجن 30 عاما بمثابة سجن مدى الحياة عادة ويحق للمحكوم بعدها أن يطلب إطلاق سراح مشروط لأسباب إنسانية أو صحية أو غيرهما، رغم أنه من النادر أن تمنح السلطات إطلاق السراح هذا في قضايا التجسس خصوصا).
على الأرجح، كان السبب الحقيقي الذي دفع أوباما لمنح بولارد إطلاق السراح المشروط هو ترضية إسرائيل في سياق الحصول على صفقة سلام لها مع الفلسطينيين وهو ما فشل في آخر الأمر أيضا. واشترط حكمُ إطلاق السراح هذا أن يبقى بولارد خمسة أعوام في أميركا قبل السماح له بالرحيل لإسرائيل التي منحته جنسيتها وهو في السجن.
في آخر يوم من عام 2020 رحل بولارد إلى إسرائيل، واستُقبل هناك استقبال الأبطال. رحبَ به في المطار رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وهو يقدم له ولزوجته بطاقتي الهوية الإسرائيلية. قال له نتنياهو: "أنت في وطنك... يا لها من لحظة" وتلا صلاة شكر بالعبرية بمناسبة وصوله. في أميركا، يُنظر إلى بولارد على أنه خائن، ويعتقد كثيرون، خصوصا ضمن الوكالات الأمنية والاستخبارية، أنه حصل على معاملة تفضيلية غير منصفة، مستفيدا من ظرف سياسي خاص، منحته إطلاق سراح غير مستحق.