آثار غزة في دائرة التدمير والمساوماتhttps://www.majalla.com/node/317751/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A2%D8%AB%D8%A7%D8%B1-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A7%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%AA
بعدما توهمنا أن أزمنة استهداف المواقع الأثرية من جانب القوى العسكرية المنظمة وأشباهها ولّت إلى الأبد، بفضل زيادة الوعي بأهمية هذه الكنوز ثقافيا وسياحيا، أتى العدوان الشامل على قطاع غزة ليبدد تلك الأوهام، وليضع جيش الاحتلال الإسرائيلي -الذي طالما تباهى خلال حروبه الثلاثة (1948 و1967 و1973) بأنه جنَّب المواقع الأثرية عواقب التدمير- إلى جانب جماعات متشددة مثل "طالبان" و"القاعدة" و"داعش"، والتي سبق لها أن استهدفت بشكل منظم المواقع الأثرية في أفغانستان والعراق وسوريا، وألحقت بها أضرارا لا يمكن تعويضها. وتشير معطيات مؤكدة إلى أن أضرارا بالغة تعرضت لها آثار قطاع غزة بسبب التدمير المنظَّم الذي لجأت إليه قوات الاحتلال الإسرائيلي بحجة ضرب مواقع حركة "حماس". والذريعة التي قدمت لتبرير هذه الجرائم، هي احتماء مقاتلي "حماس" بالمواقع المدنية والأحياء السكنية، وهي حجة تنطوي على الكثير من العنجهية والاستخفاف بالقانون الدولي وعقول البشر.
غموض المعطيات
لا تتوفر معطيات دقيقة، بعد أكثر من سبعة شهور على بدء الحرب على غزة، حول حجم الأضرار التي لحقت بآثارها، نتيجة القصف المتواصل، رغم بعض المحاولات الفردية والأهلية. ويمكن القول إن الأنباء التي تداولتها وسائل الاعلام قبل أيام قليلة حول اتفاق وزارة السياحة في حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله، مع بعض المنظمات الدولية العاملة في فلسطين مثل "يونسكو"، على تشكيل فريق وطني فلسطيني لحصر أضرار المواقع الأثرية في قطاع غزة، تشير إلى عجز تلك المنظمة الدولية عن فعل شيء حيال الكارثة.
ولا تتوافر حتى الآن سوى الأرقام التي نشرها المكتب الإعلامي التابع لحكومة "حماس" في غزة، حول المواقع الأثرية التي تضررت نتيجة القصف الإسرائيلي الذي أسفر، بحسب المكتب الإعلامي المذكور، عن تدمير ما لا يقل عن 200 موقع أثري وتراثي من أصل 325 موقعا مسجلا في القطاع. غير أن الأرقام المنشورة، على أهميتها، لا تتضمن معلومات تفصيلية، ولا تميز بين موقع أثري مهم ومركز ثقافي معاصر، وهذه الفوضى في التصنيف تربك الباحثين الساعين إلى توثيق الانتهاكات.
أسفر العدوان الإسرائيلي عن تدمير ما لا يقل عن 200 موقع أثري وتراثي من أصل 325 موقعا مسجلا في غزة
من المواقع التي طاولها القصف وحظيت بتغطية إعلامية جيدة، كنيسة القديس بورفيريوس، وهي كنيسة أرثوذكسية شرقية في حي الزيتون وسط غزة، وتعد أقدم كنيسة في المدينة، تنسب إلى القديس بورفيريوس المدفون فيها. ولا يخفى أن سبب الاهتمام الإعلامي بهذه الكنيسة نابع من عدد الضحابا الذين سقطوا فيها نتيجة القصف الإسرائيلي الذي زاد على ثمانية عشر شخصا من الفارين المحتمين فيها. كما طاول القصف موقع البلاخية الأثري، وهو ميناء غزة القديم في شمال غرب المدينة، ويعد من أهم المواقع الأثرية في المدينة، وكان مدرجا على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي، ولائحة التراث الإسلامي، بحسب المرصد الأورومتوسطي.وتعرضت قلعة برقوق للتدمير ايضا نتيجة القصف الإسرائيلي، وهي قلعة منسوبة الى السلطان الظاهر برقوق، أحد أهم سلاطين المماليك البرجية، وتتوسط القلعة مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة.وكذلك المدرسة الكاملية المنسوبة إلى الملك الأيوبي الكامل أبو الفتح ابن الملك العادل الأيوبي.
كما دمرت الطائرات الإسرائيلية بيت السقا الأثري في حي الشجاعية، شرق المدينة، الذي يعود تاريخ بنائه إلى مطلع العصر العثماني. وكذلك "قصر الباشا"، وهو قصر كبير مكون من طابقين، ويعود تاريخ بنائه إلى العصر المملوكي، وكان يضم متحفا فيه مئات القطع الأثرية والنواويس البيزنطية التي وصفها الآثاري الفرنسي جان باتيست أومبير، من المدرسة الفرنسية للكتاب المقدس والآثار في القدس (إيباف) بقوله: "إنها أفضل اكتشافاتنا"، مؤكدا أن مصيرها بات مجهولا، بعد انتشار مقطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي لجنود محاطين بقطع أثرية داخل مستودع "إيباف" في مدينة غزة.
جودت الخضري
وتلخص قصة جودت الخضري، وهو أحد أشهر جامعي القطع الأثرية في غزة، فداحة الكارثة التي حلت بآثار غزة، حيث فقد في عمليات القصف الإسرائيلية معظم ما جمعه في متحفه الخاص الذي كان مقصد علماء الآثار والسياح على مدى سنوات.
وبدأت قصة الخضري مع الآثار حين عثر في تسعينات القرن العشرين، بعد طفرة البناء التي أعقبت اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، على كميات كبيرة من القطع الأثرية تبلغ أربعة آلاف قطعة من العصر البيزنطي. وعندما عاينها أمين متحف الفن والتاريخ في جنيف مارك أندره هالديمان، أصيب بالذهول، واقترح على الخضري تنظيم معرض كبير في جنيف، يليه بناء متحف في غزة تعرض فيه القطع المكتشفة.
وبالفعل نقل الخضري في نهاية العام 2006، نحو 260 قطعة من مجموعته إلى جنيف. ولكن سرعان ما وقعت تغيرات دراماتيكية بعد انقلاب حركة "حماس" على السلطة الفلسطينية في يونيو/ حزيران 2007، الأمر الذي أدى إلى فرض إسرائيل حصارها على القطاع، مما جعل عودة القطع الأثرية إلى غزة أمرا شبه مستحيل، وتوقف الحديث عن مشروع المتحف الأثري. غير أنّ الخضري لم يفقد الأمل، وبنى على ساحل البحر المتوسط شمال مدينة غزة موقعا اتخذ شكل فندق ومتحف أطلق عليه اسم فندق "المتحف" عرض فيه باقي القطع الأثرية التي لم يرسلها إلى جنيف.
ووقع المتحف بعد الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في قبضة الجيش الإسرائيلي، وبقي كذلك لشهور عدة، وبعد مغادرة الجنود الاسرائيليين الموقع، طلب الخضري من بعض معارفه زيارة الموقع، فكانت صدمته كبيرة، إذ لاحظ أن الكثير من القطع الأثرية فقدت، وشب الحريق في القاعة. ويعتقد الخضري أن بعض القطع دفن في حديقة المتحف بعدما حرث الإسرائيليون بجرافاتهم أراضي الحديقة، وربما دمروا الأعمدة الرخامية التي كانت تشكل ممرا معمَّدا يرجع للعصر البيزنطي، وبذلك نجت القطع التي أرسلت إلى جنيف، فيما لا يزال مصير القطع التي بقيت في غزة مجهولا.
الابتزاز بالآثار
ما جرى في غزة لا يختلف من حيث الجوهر عما جرى في أفغانستان عام 2001، والعراق بعد 2003، وسوريا منذ 2013، فقد وقعت بعض المواقع الأثرية في دائرة المعارك الدائرة بين الأطراف المتقاتلة، وخضعت للحسابات السياسة والعسكرية، واستخدمت في بعض الأحيان للمساومة وتحصيل المكاسب. ففي أفغانستان حاول تنظيم "طالبان" الضغط على المجتمع الدولي عبر التلويح بتدمير تماثيل بوذا في باميان، وبعد فقد الأمل في تحقيق أي مكسب دمّر التماثيل. أما في سوريا والعراق، فقد أراد تنظيما "القاعدة" و"داعش" تلميع صورتهما أمام المسلمين والظهور بمظهر "محطمي الأصنام"، في حين كانا يعقدان الصفقات مع المنقبين غير الشرعيين للحصول على مبالغ كبيرة لقاء بيع امتيازات التنقيب.
وقع متحف الخضري بعد الهجوم على قطاع غزة في قبضة الجيش الإسرائيلي وبقي كذلك لشهور عدة
وإن كان الغموض لا يزال يلف مصير آثار "دورا أوروبوس" رغم اندحار التنظيم الإرهابي عن الموقع منذ ست سنوات، فإن الكشف عما جرى لمدينة الحضر العراقية الواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة الموصل على مسافة 110 كيلومترات، أظهر حجم الدمار الذي تعرضت له هذه المدينة الأثرية التي قاومت الرومان والفرس عندما كانت واحدة من أهم المدن التجارية في العالم القديم، خلال القرون الميلادية الثلاثة الأولى. وكان التنظيم الإرهابي قد دمر واجهات معابد الحضر، وحطم تماثيلها بزعم أنها "أصنام شركية"، ولم يكتف بذلك بل قام بحفريات عشوائية بحثا عن الدفائن والكنوز، مستعينا بمهربين محترفين كانوا يحصلون على امتياز تنقيب مما سمي بـ"ديوان الركاز".
ولم تفلح عمليات ترميم هذه المدينة المسجلة كأحد مواقع التراث العالمي لدى منظمة "يونيسكو" في إعادة آثارها كما كانت، وخصوصا واجهات المعابد التي كانت تزينها تماثيل وزخارف غاية في الدقة والجمال.