تدور أحداث الفيلم في الشوارع الداخلية لأحياء الفقراء وشوارع الضواحي الخلفية. تصور أرنولد مجتمعات وحيوات يومية مختلفة لكنها قريبة من الواقع الراهن، عبر متابعة طفلة على الأعتاب الأولى للمراهقة تدعى بايلي، تعيش مع والدها في نزل في أحد ضواحي المدن الموجودة شمال إنكلترا. ومع تقدم الأحداث نلتقي شخصية بيرد، الذي يضيف إلى الفيلم روح الواقعية السحرية، ربما للمرة الأولى في سينما أندريا أرنولد، بشيء يقترب من أعمال الإيطالية أليتشي رورفاتشر مثل "سعيد مثل لازارو" أو "لا كيميرا"، إلا أن "بيرد" لم يوفَّق في تحقيق الالتقاء بين حدة الواقع وسحرية الفانتازيا، ليأتي كثير من عناصره زائدا على الحاجة، سواء في بنية الفيلم أو على مستوى الصورة.
تواجه الأفلام – والاعمال الإبداعية إجمالا- تلك التي تسعى إلى الجمع بين الواقعية القاسية والفانتازيا الساحرة تحديا أساسيا يتمثل في خلق العالم المتضاد، ووضع قواعد له تتسم بالاتساق في ما بينها وأن يكون الانتقال بين الواقع والفانتازيا انتقالا سلسا وباهرا في الوقت نفسه، وهو ما ينجح فيه قليل من تلك الأفلام فتصير هي الأروع لتميزها، سواء في بناء عوالمها، أو طرقها السردية، وحتى في توليفتها.
التحدي في بناء العالم السينمائي الذي يفرق بين فيلم وآخر في حكم الإتقان، يبدأ عند صناع هذه الأفلام لإحكامها، ويصل إلى المشاهد الذي يلزمه الانفتاح على مشاهدة ما تحمله هذه الأنماط من تجريب إبداعي. ومن هذه الأفلام لـ"كان" نصيب.
جنكه يقبض على المد والجزر
أول هذه الأعمال وأفضلها -إلى الآن-مما عُرض في "كان" 77، فيلم "القبض على المد والجزر" لأهم مخرجي الجيل السادس في السينما الصينية جيا جنكه. هذا الفيلم الروائي اللافت ينقسم ثلاثة فصول وفق خط زمني منتظم، وهو النمط السردي نفسه الذي اتبعته أعمال جنكه السابقة مثل "قد تغادر الجبال"و"الرماد هو الأبيض الأنقى". في الفيلم يتبدّل الزمن بتبدّل الأماكن، فنبدأ من شمال الصين في 2001 نحو جنوبها في 2004، قبل أن نعود إلى شمال الصين ثانية في الفصل الأخير من الحكاية عام 2022.
المختلف هنا عن أفلام جنكه السابقة التي اتبعت النمط نفسه، هو تعزيزه للحكاية بعناصر أرشيفية ولقطات مصورة حديثا، إلى جانب لقطات من أفلامه السابقة مثل"حياة ساكنة"و"متع مجهولة"، خالقا من ذلك المزيج حالة شاعرية في سلسلة من المشاهد التي تنبض بالحياة والرقص والحفلات الموسيقية والمناظر الطبيعية، والتظاهرات الضخمة بمختلف مواقعها التاريخية في الصين، من دون الاستعانة بأي حوارات أو عبارات شارحة، لتُترك مهمة السرد للصورة وتتابعها في صناعة السياق.
في "القبض على المد والجزر"، يقبض جيا جنكه على حالة الصين التي جرفتها تحولات كثيرة على مدار العقدين الأخيرين، بين مد وجزر في حالتها الاقتصادية وتغيراتها الاجتماعية المتسارعة بفعل تغير السياسات العامة والهوية والوضع الاقتصاديين، إلى أن يحين الفصل الأخير ليكشف كذلك عن ميلودراما تعبر كل هذه السنوات.
"المادة" لكارولي فارجيه
يمكن القول إن ما أحدثه فيلم كارولي فارجيه في العرض الصحافي الأول ليس له مثيل في أي من الأفلام المعروضة في دورة "كان" هذا العام. ما حدث هو انفجار شعوري بالمعنى الحرفي، تقلبت الصالة أثناء العرض رعبا في مرات وضحكا قاتما في مرات أخرى. وعلى الرغم من أن العمل نفسه مفاجأة، إلا أن توجه المخرجة الى هذا النمط من الأفلام لا يعد مفاجأة لمن يعرف عملها السابق "انتقام" 2017، فمن شاهده أدرك أن هذا النوع من السينما كان مرتقبا، هذا النوع من الصخب الذي يأتي تماما مثل رصاصة تكتسب قوتها بمجرد انطلاقها، وتتصاعد قسوتها ويحتدم عنفها مباشرة بعد مرورها من الأجساد التي تعبرها.