بين "تراجع" إيران إلى الداخل وتحولات الحرب في غزة

هل ستشهد إدارة طهران لملفات المنطقة وجبهاتها أي ارتباك؟

رويترز
رويترز
لوحة إعلانية عليها صورة وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، خلال جنازته في طهران، 23 مايو

بين "تراجع" إيران إلى الداخل وتحولات الحرب في غزة

كسائر أحداث المنطقة، فإن حدث سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه وأبرزهم وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان، حمل في طياته الكثير من الأسئلة والمفارقات والحسابات. ففي بلد مثل إيران وفي منطقة مثل الشرق الأوسط وفي ظل حرب مثل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والجبهات الموازية والمساندة، فإن سقوط مروحية الرئيس الإيراني حدث سياسي إيراني وإقليمي بامتياز، على ما بين الداخلي والخارجي من ترابط محكم في بنية النظام في طهران، ونظرا أيضا إلى التأثير الإيراني المضطرد في أحداث المنطقة وأزماتها.

بناء على هذا الترابط طرح سؤال أساسي عما إذا كان دخول إيران في مرحلة انتقالية إلى حين انتخاب خلف لرئيسي خلال 50 يوما، سيجعل تركيز دوائر القرار في إيران يتحول إلى الداخل في حمأة الاستحقاق الانتخابي والصراع المحموم في أروقة السلطة. وهو في الواقع استحقاق بمستويين، مستوى رئاسة الجمهورية ومستوى خلافة "المرشد" علي خامنئي، على ما بين المستويين من تداخل قوي، ما يجعل معركة الرئاسة جزءا أو مقدمة حاسمة لمعركة خلافة "المرشد".

أ ف ب
رجل يكتب في دفتر التعازي في السفارة الإيرانية في صنعاء في 23 مايو، بعد وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان وسبعة آخرين في حادث تحطم مروحيتهم

هذا الاضطرار الإيراني للتركيز على الداخل بما يشبه الانطواء على الذات يطرح سؤالا رئيسا عما إذا كانت إدارة طهران لملفات المنطقة وجبهاتها ستشهد ارتباكا لناحية حجم التأثير في قرارات وكلاء إيران الذين يخوضون مواجهات منضبطة مع إسرائيل ولاسيما "حزب الله" في الجنوب اللبناني.

وكانت تسريبات وأسئلة قد برزت خلال الحرب الدائرة منذ نحو 8 أشهر عن كيفية اتخاذ القرار في "جبهات الإسناد"، أي هل كانت دوائر القرار الرئيسة في إيران صاحبة القرار المطلق في أمر هذه الجبهات لناحية وتائر التصعيد ونوعية الأهداف والأسلحة المستخدمة، أم كان هناك هامش من الاستقلالية لوكلاء طهران يخولهم اتخاذ القرارات وفق تقديرهم السياسي والأمني؟ ولا ننسى أنه في مرحلة معينة من مراحل الحرب كثر الحديث من قبل هؤلاء الوكلاء عن استقلاليتهم، وقد ركّز الأمين العام لـ"حزب الله" في أكثر من خطاب على هذه النقطة. لكن ذلك لم يحسم هذه المسألة بطبيعة الحال، ليس لأنه من الصعب الإعلان عن الحقيقة أو الوصول إليها في ظل منظومة سياسية وأمنية وعسكرية معقدة كالمنظومة الإيرانية بكل فروعها وأذرعها، بل لأن كل هذا الحديث جرى في وقت كانت إيران تدير تموضعا معقدا خلال الحرب، إذ حاولت قدر الإمكان تجنب الانخراط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي الوقت نفسه أرادت أن تؤكد دعمها لـ"جبهات الإسناد" من ضمن مصالحها الاستراتيجية وسرديتها لدعم القضية الفلسطينية. ولذلك فقد دأبت على التبرؤ من خطط وقرارات وكلائها لكنها في الوقت نفسه ظلت تؤكد دعمها لهم. وبالتوازي فقد أشارت تسريبات إلى خلاف داخل أروقة القرار في إيران، خلال الحرب، بخصوص الرد على هجمات إسرائيل ضد وكلاء طهران وضد المستشارين الإيرانيين، إذ قيل إن "الحرس الثوري" كان قد تبرم باكرا جدا من خيار "الصبر الاستراتيجي".

على هذا النحو، فإن المرحلة الانتقالية في إيران ستعيد طرح هذه الأسئلة وستشكل اختبارا حقيقيا لمدى تأثير طهران على "جبهات الإسناد"، مع أنه من الصعب جدا قياس هذا الأمر بالنظر إلى أن "عالم الوكلاء" عالم سرّي وغامض ومغلق، لكن على الرغم من ذلك يمكن التقاط إشارات عن اتجاهات للتصعيد أو العكس، ولاسيما في الجنوب اللبناني وهو المسرح الرئيس للمناورة الإيرانية في المنطقة.

توسيع الهجوم الإسرائيلي على رفح يحصل بالتزامن مع عودة الحديث عن استئناف المفاوضات وقرار إسرائيل بالعمل مجددا على "صفقة الأسرى"

غير أن محاولة قراءة انعكاسات المرحلة الانتقالية في إيران على "جبهات الإسناد" وعلى تطورات الحرب "المركزية" في قطاع غزة، لا تنحصر وحسب في تأثير الصراع السياسي في طهران على الأولويات الإيرانية بين الداخل والخارج، بل إن الأهم أنّ سقوط مروحية إبراهيم رئيسي جاء في لحظة تحولات كبرى في مسارات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، عنوانها الأبرز الضغط الأميركي المتصاعد لإنهاء الحرب أو لمساعدة إسرائيل لـ"النزول عن الشجرة". 
وقد شكلت زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إلى المنطقة الأسبوع الماضي محطة متقدمة في هذا السياق لكونها تدفع تل أبيب إلى إعادة التفكير في حسابات الربح والخسارة بين مواصلة الحرب والدخول إلى البرنامج الأميركي للمنطقة. لكن هذا لا يعني، مرة جديدة، أن هناك افتراقا أميركيا- إسرائيليا، وأن واشنطن ستضغط أكثر على تل أبيب في حال واصلت هجومها على مدينة رفح. بل يبدو أن هذين المسارين، أي مسار الهجوم على رفح ومسار الهندسة الأميركية للمنطقة، يسيران الآن بالتوازي، باعتبار أن واشنطن خفضت تحفظاتها على الهجوم الإسرائيلي على رفح بعد خروج مئات آلاف الفلسطينيين منها، وها هو الجيش الإسرائيلي يبدأ في توسيع هجومه على المدينة المحاذية للحدود المصرية. واللافت أنه وكما أن سيطرة الجيش الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني من معبر رفح منذ نحو أسبوعين حصلت في لحظة وصول المفاوضات بين تل أبيب و"حماس" إلى مرحلة حاسمة، فإن توسيع الهجوم الإسرائيلي على رفح حصل بالتزامن مع عودة الحديث عن استئناف هذه المفاوضات وقرار إسرائيل بالعمل مجددا على "صفقة الأسرى".

أ ف ب
صورة وزعتها الرئاسة الإيرانية تظهر نعش الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي خلال موكب جنازة في مدينة بيرجند الشرقية، 23 مايو

لكن ليست أميركا وحدها من يضغط على إسرائيل بل إن الضغوط على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو متعددة المستويات والمصادر بدءا من الخلافات داخل حكومة الحرب المصغرة بين "بيبي" ورئيس "المعسكر الرسمي" بني غانتس ووزير الدفاع يوآف غالانت حول مسارات الحرب و"اليوم التالي"، مرورا بطلب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت في سابقة بتاريخ إسرائيل وفي تحد غير مسبوق لسرديتها التاريخية عن أنها "الضحية" مع "أل التعريف"، ووصولا إلى اعتراف ثلاث دول أوروبية هي آيرلندا وأسبانيا والنرويج بدولة فلسطين. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن موقف واشنطن في ما يخص قرارات المحكمة الجنائية واعتراف الدول الأوروبية الثلاث بفلسطين كان هو نفسه تقريبا موقف نتنياهو منها.  
إذن فإن كل هذه التطورات متداخلة إلى حد يجعل من الصعب تكوين فهم عما يحدث في المنطقة من دون الأخذ بها كلها، وقد جاءت "حادثة" سقوط مروحية الرئيس الإيراني لتضيف تعقيدات وأسئلة إضافية على المشهد، ولعل أبرز هذه الأسئلة عن موقف طهران من كل هذه التطورات، خصوصا أنه لم يمض أسبوع على الإعلان عن جولة مفاوضات بين واشنطن وطهران في سلطنة عمان، حول كيفية الحد من التصعيد الإقليمي. لكن تسريبا إيرانيا لإحدى الصحف اللبنانية القريبة من "حزب الله" أشار إلى أن هذه المفاوضات ستتوقف إلى حين انتخاب خلف لإبراهيم رئيسي، وذلك بعدما كانت البعثة الإيرانية إلى الأمم المتحدة في نيويورك قد قالت أن هذه المفاوضات ليست الأولى ولن تكون الأخيرة!

إلى أي حد سيؤثر "الإنهاك الداخلي" على كيفية تكوين السلطة في إيران وعلى توجهات "السلطة الجديدة"، وعلى صورة طهران ونفوذها في المنطقة؟

بيد أنه وبغض النظر عن مسار هذه المفاوضات ونتائجها فإن سقوط المروحية الرئاسية أعاد تظهير الانقسام الإيراني بين خياري "التوجه شرقا" وتحسين العلاقات مع الغرب، بدءا من الولايات المتحدة. وفي هذا السياق كان لافتا أن وزير الخارجية السابق جواد ظريف "المعتدل" الذي يدافع عن "الخيار الغربي" والذي لم ينس العالم ابتساماته خلال المفاوضات لإبرام الاتفاق النووي في عهد باراك أوباما، اتهم واشنطن بالتسبب في مقتل رئيسي "المتشدد" لأن العقوبات الأميركية تسببت في نقص "قطع الغيار" للطائرة الرئاسية. وهو الموقف نفسه الذي أصدره وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تعليقا على "الحادثة". بينما لم يصدر أي تصريح مهم من "المتشددين" في هذا الاتجاه، رغم اتهاماتهم المتككرة لواشنطن في الصغيرة والكبيرة، ولكنهم هذه المرة لم يشاءوا على ما يبدو الاعتراف بتأثير العقوبات الأميركية على الداخل الإيراني وهو ما يأتي بالماء إلى طاحونة "المعتدلين"، كما أنه يحقق نشوة أميركية. وفي مطلق الأحوال فإن هذا الأمر ليس تفصيلا في الوضع الداخلي الإيراني في ظل "صراع الخيارات"، وليس تفصيلا بالتالي بالنسبة لتطورات الأوضاع في المنطقة التي تؤثر فيها طهران بقوة بوصفها من اللاعبين الإقليميين الرئيسين. فإلى أي حد سيؤثر "الإنهاك الداخلي" على كيفية تكوين السلطة في إيران وعلى توجهات "السلطة الجديدة"، وعلى صورة طهران ونفوذها في المنطقة؟ وإلى أي حد سيعتبر خصوم إيران أن اللحظة مواتية للتشدد حيالها؟ هذه أسئلة تتيح الإجابة الصعبة عليها تصورا أدق لاحتمالات التطورات في المنطقة، لكن الأكيد أن إيران لا تستطيع التأقلم إلى الأبد مع فقدان "قطع الغيار"!

font change

مقالات ذات صلة